نهض قصة فيلم "بدون وطن" لنرجس النجار على اقتفاء معاناة إنسانية صامتة لامرأة تبحث عن لملمة شظايا ذاكرة جريحة ولدت غداة قرار سياسي اتخذته الجارة الجزائر ذات يوم من دجنبر 1975.
بطلة الفيلم الذي عرض أمس الخميس ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة لمهرجان سلا لأفلام المرأة، امرأة شابة تحيا بمعاناة صامتة في منطقة على الحدود المغلقة مع الجزائر، تجثم على كيانها وتكبل إقبالها على حياة طبيعية. كأن المأساة التي طالت والدتها ضمن 350 ألف مغربي طردتهم السلطات الجزائرية أواخر 1975، وشتتت عائلاتهم، تتناسل في عقد وجروح مفتوحة ينكأها استمرار إغلاق الحدود بين البلدين.
على الرغم من خصوصية الموضوع وجدته بالنسبة للمسار السينمائي لنرجس النجار، فإنها على غرار أعمالها السابقة، تكرس بطولة المرأة، في وضعها المزدوج كضحية ورهان تحرر في نفس الآن. ف "هنية" فقدت والدتها الجزائرية في حملة الطرد الجماعي، وألقي بها عبر الحدود مع أبيها المغربي الذي توفي بعيد الحدث حزنا على زوجته وحياته التي تركها هناك. وها هي تعلنها كفاحا من أجل استعادة الذات والذاكرة التي يراد لها أن تمحى.
عاشت هنية بلا هوية، معنى وفعلا. إنها تبحث عن والدتها التي تعتبرها "وطنا" ضائعا تريد استعادته لتستعيد توازنها ومذاق حياتها من جهة، وهي في نفس الوقت تحتاج إليها للحصول على أوراق قانونية تبددت في حمأة الخروج القسري من الجزائر، تمكنها من استخلاص بطاقة هوية تعيش بها مواطنتها الكاملة والحرة.
باختيارها للمنطقة المحاذية للسياج الحدودي بين البلدين، يعطي الفيلم للقصة بعدا دراميا مضاعفا. فجرح الطرد الجماعي بالأمس لازال مفتوحا في الذاكرة بلا اعتراف ولا اعتذار ولا تعويض، وجرح الحدود المغلقة اليوم يتواصل ليمنع أي محاولة لجمع الشتات ورأب الهوية التي ضربها قرار سياسي انتهك أصول السياسة وقيم الإنسانية معا.
وباستثناء بعض الإشارات المباشرة إلى أصل المعاناة والرسائل التي يضمرها تصوير حالة سريالية لسياج حدودي يتواصل عبره جنود الضفتين بكل إنسانية ومحبة، فإن نرجس النجار حاولت بناء قصة درامية بنفس اجتماعي إنساني، تجسده وضعية "هنية" الشابة الجميلة التي نشأت في محيط هش بلا حماية، جعلها مطمعا للرجال الذين بدا جلهم في الفيلم شخصيات سلبية تجعل من المرأة موضوعا للرغبة لا كائنا حرا له الاختيار.
وعلى هذا المنحى، تعود نرجس النجار إلى موضوعها الأثير الذي تناولته وإن بأساليب مختلفة في "العيون الجافة" (2003) و "عاشقة من الريف" (2011)، حيث تصبح السينما شاشة تنديد بالهيمنة الذكورية على المرأة. ف "هنية"، التي فقدت الأب الراحل والأم المختفية في غبار محطة تاريخية سوداء، زوجت قسرا عن سن 12 سنة، وهي بعد تلعب بعرائسها التي تصنعها يدويا، فلاذت بالفرار نحو بلدة بعيدة، لكن مصيرا مماثلا كان ينتظرها، حيث اضطرت مرة أخرى للزواج من شيخ أعمى كطريقة لتسهيل إجراءات الحصول على بطاقة هوية، تشعر من خلالها بكينونتها واستقلاليتها، بينما قلبها مع ابنه الذي فضل الارتباط بسيدة فرنسية.
الفيلم (95 دقيقة) الذي عرض في الدورة المنصرمة من مهرجان برلين يقدم للسينما المغربية وجها واعدا جسدته الشابة الغالية بنزاوية في دور "هنية"، التي أبانت عن طاقة أداء متميزة، خصوصا أنها كانت أمام نص شبه صامت يستدعي استنفار حواسها جانب أفيخاي بن عزرا (ابنه) ومحمد نظيف ونادية نيازي والممثلة الفرنسية جولي غاييهالتعبيرية، نظرة وحركة ونفسا، أبلغ من أي حوار شفهي. كما يظهر الفنان المخضرم عزيز الفاضلي بشباب متجدد على الشاشة الكبرى، بعد ظهور خافت خلال السنوات الأخيرة (في دور الشيخ الأعمى) إلى.