الطماطم ليست خضرا بل فاكهة، معلومة تدخل في نطاق المعرفة، أما الحكمة، فتفرض عدم وضعها ضمن صحن خليط الفواكه المقدمة قبل أو بعد وجبة دسمة.
هكذا هي أعراف الدبلوماسية حول العالم، المعرفة شيء، وتصريفها شيء آخر تماما. مثال بسيط جدا على ذلك؛ الرئيس الأمريكي العائد إلى البيت الأبيض، دونالد ترامب، صبر سنوات، ليمرر للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، رسالة تضع الرجل حيث يجب أن يكون.
وصفه بأنه "عميل ذكي".
جاء ذلك، بعدما سرد تفاصيل آخر لقاء بينهما، بمطعم يُطل على برج "إيفل". أقحم ترامب زوجة ماكرون في سياق تصريحه، وزوجته أيضا. ثم قال مباشرة أمام الصحافيين:
"عندما خرجنا، تحدث ماكرون بالفرنسية مطولا، كنت أهز رأسي فقط، دون أن أفهمه، يوم غد، قرأت في الصحافة الفرنسية، ما لم نتفق حوله إطلاقا، إنه عميل ذكي.."
الوصف، قابله ماكرون بضحكة لا تعكس تقاسيم ملامح وجه تألم من وقع بوح ليس عفويا إطلاقا. لأنه سبقته، وتلته، تصريحات مؤلمة تجاه أوروبا، وحرب أوكرانيا، وكل تلك المواجع التي يحملها ترامب ويصرفها بعنف تواصلي مطلق، تجاه القارة العجوز التي صنعت أمريكا، ثم عادت إليها الأولى لتقمص دور ركوع الأصل للفرع.
وهذا ما لا يجب أن يحدث مع المغرب؟
المقدمة هنا ليست سوى محاولة لتبسيط أن موازين القوى الدبلوماسية، وقواعد اشتغالها وتحريكها، طلّقت، منذ مدة، قنوات التصريف الكلاسيكية.
انتقلت لتجعل من تواصل القرب مع الفرد والجماعة والمجتمعات والدول، ذلك الجسر الذي يُنتقل عبره لتحقيق أهداف القوة السياسية والناعمة معا، بطرق تتسع دائرة تأثيرها خلال كل ساعة، وليس شهورا أو سنة.
مكاسب الدبلوماسية لم تعد تعترف بحضور القمم وترؤس الجلسات الرسمية، ووضع شخص أو أشخاص فقط لأنهم، أو أنهن، مقربون أو مقربات من فلان، إن لم تكن عندهم دراية بحجم تأثير منصة "تيك توك" فقط، اليوم، وجودهم على رأس هرم المسؤولية حيث هم وهن، يجعل بلدهم يدخل المعارك بناقص ما لا نهاية.
قبل أكثر من أسبوع، عاش المغرب معارك انتخابية ودبلوماسية وساسية داخل أروقة مقر الاتحاد الإفريقي بأديس أبابا.
نتائجها نعرف منها ما يمكن البوح به في حدود تجنب الإضرار بمصالح وطن يواجه دعاية انفصالية تقودها جارة تنام وتستيقظ على وهم إشاعة الفوضى وتفتيت إفريقيا، لأن من يحكمها يستثمر في ذلك.
لكن ماذا عندنا؟
نحن الذين يرافع الملك محمد السادس على نهج سيادة منح الريادة لإفريقيا، وليس فرض تزعمها بالمال والحديد والنار !
الملك، اشتغل منذ قرار العودة إلى إفريقيا على ضرورة مخاصمة سياسة الكرسي الفارغ، ومخاطبة الأفارقة بلغتهم التي يفهمونها.
تقاسم كل كبيرة وصغيرة معهم ولأجلهم، ليس فقط حين تشتعل الأضواء الكاشفة داخل قاعات مكيفة بعيدا عن عمق القارة.
لحظة هنا!
خلال العام المنصرم، وفي ما يخص حضور المغرب بمجلس السلم والأمن، حضر السفير الممثل الدائم للمملكة لدى الاتحاد الإفريقي واللجنة الاقتصادية لإفريقيا، محمد عروشي، أربع جلسات للمجلس فقط!
حضرها، شهر فبراير من العام 2024، حين كان المغرب يترأس المجلس بحكم ترتيب أبجديات بداية اسم المملكة.
قبل ذلك وبعده، داخل أديس أبابا وخارجها، كان الحضور يقتصر على تمثيلية موظف داخل السفارات فقط، مهما بلغت درجة أهمية الملفات والمواضيع التي تطرح.
ليس المجلس الاستراتيجي فقط المعني بغياب التمثيلية الوازنة المفروضة للمغرب. بل يتمد ذلك إلى عدد من الاجتماعات واللقاءات.
أما ما يهم الدبلوماسية الموازية، التي تجتهد الجزائر في اقترافها بعنف وإنزال، دون التقليل من أهمية أي محطة إفريقيا، فيرفع فيها المسؤولون المغاربة شعار: "كم حاجة قضيناها بتركها.."
رغم أن التجارب أكدت، أكثر من مرة، أن ترك الأمور داخل إفريقيا لحال سبيلها يجلب غضب الأفارقة وليس العكس. يجعل ساستها يعيدون المملكة المغربية، بسبب نهج التجاهل والاستسهال، إلى موقع الغائب عن موقعه الذي استرده عن قناعة.
قناعة تغيب، اليوم، وأنا أتابع التحضير لعقد قمة اللجنة الاقتصادية لإفريقيا، أيام 12 و13 و14 مارس المقبل.
قمة سوف تعقد على مستوى لجنة خبراء مؤتمر وزراء المالية والتخطيط والتنمية الاقتصادية الأفارقة، وبرعاية مباشرة من المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة.
ستعرف القمة انتخاب رئيس ومكتب جديدين، وفق أجندة تنزيل برنامج عمل مزدحم، جهزت له الجزائر ما يرافق الرسمي والموازي، خاصة الثاني. إذ تحضّر لعقد منتدى موسع يستقطب نساء ورجال الأعمال الأفارقة الشباب، من داخل وخارج والقارة. وحسب المعطيات المتوفرة، فقد عبأت كل طاقاتها ليكون اللقاء الاقتصادي الدبلوماسي فرصة لإعلان ما يقدم فرنسا، وغيرها، على أنها عدو قديم للقارة ومستعمر يجب تذكير شعوبها بذلك.
وهنا، أعتقد أنه تتضح جدوى المقدمة التي جاءت في هذا المقال.
فرنسا هي التي تحتاج إلى المغرب، اليوم، وليس العكس. والمملكة في حاجة أكثر لإفريقيا. هناك قناعة بذلك في الشق الثاني على الأقل. لكن كيف يتم تصريف ذلك؟
الجواب عند من يرى في الدبلوماسية المغربية فرصة من أجل الوطن، وليس عند من يتوهم أنها من أجل "الشاو" فقط، حين يحضر الإنجاز، وحين يغيب ينهج سلوك النعامة.
وبالعودة لمعلومة أن الطماطم من الفواكه وليس الخضر.. أتمنى أن تحضر حكمة عدم الانجرار لجعلها في مقدمة صحن خليط الفواكه الذي يقدم للأفارقة.