أحمد مدياني: الملك يُنصف الأرض وأصحابها

أحمد مدياني
أحمد مدياني

مع بداية تشكل الوعي بالإنخراط الفاعل في المجتمع، وحماس تبني قناعات ومبادئ تنسجم مع فورة شباب تعرفوا على اليسار لتوهم، سألنا ذات صباح خلال حصة لمادة الاجتماعيات أستاذنا (الذي أصبح صديقنا) عن الوصفة الكاملة لإحداث تغيير أوضاع المغرب والمغاربة... وإن كان يرفض بشكل قاطع الخوض في أمور السياسة داخل الفصل، فقد توقف قليلا عن المشي - وكانت تلك عادته خلال إلقاءه الدرس - تأمل في وجوه يافعين آمن بهم وكذلك كان، ثم أطلق أستاذنا يوسف خليص وهذا اسمه، عبارة كلما تُهت أعود إلى ترديدها: "يجب أن نساعد الملكية والنظام على تبني خيارات ديمقراطية بدل الصراع والضغط لأجلها".

لماذا تذكرت ما جاء على لسان الأستاذ خليص قبل نحو عقدين من اليوم؟

تذكرته فور قراءة بلاغ العفو الملكي عن قرابة 4000 من المزارعين الصغار الذين لم يكن أمامهم خيار آخر غير حرث الأرض لكسب قوت اليوم من نبتة كانت محرمة ومجرمة.

تذكرت كيف من الممكن أن يراكم المغاربة من الملك إلى أصغر فرد في المجتمع مكاسب ديمقراطية واجتماعية واقتصادية وإنسانية، وفق قاعدة ترى أن استمرار الدولة المغربية بأركانها الحالية في مصلحة الجميع، وأن سبل التغيير لا يهم منبعها، بالقدر الذي يهم أثرها على حاضر ومستقبل وطن يمكن أن يسع الجميع، شريطة الاقتناع بأننا الجزء وليس الكل. كل من موقعه، دون إغفال أن الملك يؤسس لمصالحة جديدة مع الماضي وفق مقاربة الفعل المباشر دون وسطاء بين المؤسسة الملكية والشعب.

العفو الملكي الإنساني والاجتماعي عن صغار مزارعي "الكيف" المدانين والمتابعين والمبحوث عنهم، ليس عفوا عن 4831 شخصا فقط، بل هو عفو يشمل المئات من أسرهم، والآلاف من أقاربهم وأصدقائهم ومعارفهم وجيرانهم، ويمكن القول إنه عفو عن مئات الآلاف من أبناء مناطق تختبئ بين جبالها وهضابها وسهولها، قصص مآسي ومعاناة امتدت لعقود وانتهت بكتابة أول حرف من قرار العفو الملكي.

إن ما يهم أكثر في هذا الفاصل الديمقراطي الاجتماعي الإنساني، من فصول التطلع لغد أفضل، أن المؤسسة الملكية مقتنعة بأن من شملهم العفو هم ضحايا، والدليل على ذلك أن من بين ما أطر صدوره في حق صغار مزارعي نبتة القنب الهندي، كان عن وعي بالأوضاع الاجتماعية المتدهورة التي يعيشها هؤلاء المزارعون الذين كانوا يخضعون على مدى سنوات لسيطرة المنظمات الإجرامية.

وكما قلنا سلفا، فإن العفو يجب أخذه وتناوله من زاوية تتجاوز الأبعاد القانونية إلى درجة التعامل مع أشخاص في حد ذاتهم.

لماذا؟

لأن القرار الملكي لم يضع نقطة بإنتهاء معاناة هذه الفئة قانونيا، بل فتح أمامها كما جاء في بلاغ وزارة العدل، فرصة العودة لكسب قوت العيش من نفس المصدر الذي أدينت أو توبعت أو حكمت على نفسها بالفرار بسببه.

"سلبت منكم الحرية بسبب (الكيف)... عودوا للحرية دون سلبكم مصدر عيشكم (مكرر*)" لكن هذه المرة وفق سياسة تقنين زراعته وتسويق تضبط قواعده من طرف الدولة وليس من طرف الذين يقتاتون على الهامش وهم كثر.

وبذكر تجار الهوامش الذين غنموا الجاه والمال والسلطة بفضل هذا الملف، وجب الوقوف عند رسالة مهمة أعتبرها شخصيا حجر زاوية مستقبل تحرير الدولة لزراعة "الكيف" وتسويقه عبر القنوات التي حددت، وهي أن الملك وضع حجر أساس المستقبل لهذا القطاع، بأن أنصف من يملكون الحق الأول في التصرف فيها.

تأمل جيدا ما سوف يأتي من كلمات، وسوف يفرض عليك الفهم والتفكيك القول إنها خطوة ملكية تاريخية.

وعليه، فحين قررت الدولة تقنين زراعة "الكيف" وتسويقه، أكيد سال لعاب محترفي اقتناص الفرص والسطو على مبادرات اقتصادية واجتماعية وإنسانية، ومنهم من جهز كل شيء لينتقل من المركز إلى "الهامش" ليغنم نصيبه غير المستحق.

العفو الملكي قال لهؤلاء: "توقفوا!" الأرض والنبتة لمن دفع ثمن حريته لأجلها، وهناك من دفع الثمن بعائلته وصحته وأيضا حياته.

العفو الملكي وثيقة يمكن اعتبارها "تيتر جماعي" (التسجيل والتحفيظ) منح لمن يستحقون، مثلما قطع الطريق على من طمعوا في أن يحلوا محل أصحاب الحقوق الأصليين، بعدما خرجت زراعة نبتة القنب الهندي من دائرة اللاقانون إلى التقنين.

ولكم أن تتوقعوا حجم التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي سوف تطرأ حين يعود أصحاب الحق والأرض لمزاولة نشاطهم في إطار القانون وبتفويض ملكي.

أليست خطوة ملكية تاريخية؟ أكيد: نعم

وبعد الجواب، لا مانع من الاعتراف بأن الملك محمد السادس وعند كل لحظة مفصلية في تاريخ المغرب، يختار أن يرفع السقف عاليا، يمكن القول إنه يفاجئ الجميع... رغم كل هزات التدافع الذي يجب أن يستمر دون إسقاط الحس الوطني الحقيقي البعيد عن الاسترزاق الأخضر منه والأحمر وما بين درجات اللونين...

هناك أمثلة كثيرة... أستحضر منها هنا الخطاب الذي جاء بعد أول يوم من احتجاجات "حركة 20 فبراير" التي كنت جزءا منها وفاعلا فيها، وتلك حكاية أخرى تستحق أن تروى تفاصيلها يوما ما.

أعود إلى حجرة الدرس قبل نحو عقدين، أجلس في المقعد الخلفي وأنا أنصت لأستاذي وصديقي "يوسف خليص" وأردد معه كل مرة إلى اليوم: "فعلا يجب أن نساعد الملكية والنظام لتبني خيارات ديمقراطية".

وأضيف عليها، دائما من داخل حجرات دروس ألم التجربة: "يمكن للملكية والشعب حصد الكثير إن شفي البعض من مطامع غنائم الوساطة".