يعيش المغرب والمغاربة حالة استنفار صحية غير معلنة، بل يكاد يكون صداها منعدما في أوساط المجتمع، بالنظر إلى ما يجب أن تكون عليه أمام عدد الوفيات، خاصة في صفوف الأطفال أقل من 12 سنة.
داء الحصبة، أو "بوحمرون"، كما نصفه بالعامية المغربية، ينتشر بوتيرة متسارعة. تفشى في عدد من المؤسسات التعليمية. اقتحم أسوار السجون. واستوطن، في صمت، عددا من المرافق العمومية والخصوصية.
حسب آخر المعطيات الرسمية، بلغ عدد حالات الإصابات بالعدوى على المستوى الوطني 20 ألف مصاب. الوفيات تجاوزت، إلى حدود نهاية الأسبوع المنصرم، 100 حالة وفاة، كما ذكرنا سلفا، أكثر من نصفها أطفال ما دون سن 12 سنة.
هذا الوضع الوبائي يفرض طرح الأسئلة الحقيقية، عوض الاكتفاء ببلاغات رصد حالات الإصابة، ونشرات التوعية التي تواصل اختيار القنوات التقليدية، وتتجاهل أين يكمن الخلل والخطر بالضبط.
أولا، يجب أن نعترف بأن المجتمع المغربي، بدوره، ضحية مخلفات فقدان الثقة في التلقيح. انطباع شبه عام غذته تبعات زمن جائحة "كورونا"، بكل ما أفرزته من تراكمات سلبية تجاه وسيلة صحية تمت شيطنتها، بطرق ممنهجة.
شيطنة اللقاحات تتحمل شركات ومختبرات صناعتها الجزء الأكبر من المسؤولية فيها؛ لأن هذه الأخيرة طرحت، خلال الجائحة، لقاحات، بعقلية الربح والتسابق على الفوز بصفقات التوريد، دون الأخذ بعين الاعتبار أن "السرعة تقتل".
وفعلا، كانت السرعة قاتلة في حالات كثيرة، ضحاياها كثر فارقوا الحياة، بسبب مضاعفات أحد "الماركات المسجلة" للتلقيح ضد "كوفيد - 19"، بعضها سجل في المغرب، دون أن تخرج، كما هي العادة، نتائج كل التحقيقات التي قيل لنا، يوما ما، أنها فتحت لمعرفة الأسباب وتحديد المسؤوليات.
ماذا يتذكر المغاربة من زمن "كورونا"؟
سوف يجيبك السواد الأعظم منهم بأنها كانت "مؤامرة" على البشرية، أبطالها مجهولون يحاولون السيطرة على العالم، ويوظفون لأجل ذلك مختبرات اللقاحات لتنزيل مخططهم.
هذه هي القناعة التي ترسخت في أذهان المغاربة من مختلف الشرائح والفئات المجتمعية، والأخطر أنها لم تقف عند حدود رد الفعل تجاه لقاح "كورونا"، بل امتدت لتشمل كل اللقاحات، وإن أكدت تراكمات التاريخ الصحي للبشرية أنها آمنة وأنقذت الملايين من الموت، خاصة الأطفال.
ثانيا، هل يتجاهل البعض كلفة الإضرابات المتتالية بقطاع الصحة؟!
أليس هناك من بين المسؤولين من يملك شجاعة الخروج للاعتراف بأن الأزمة التي يعيشها القطاع، منذ سنوات، واحدة من أسباب، ليس فقط عودة انتشار "بوحمرون"، بل عودة داء السل، أيضا؟ وضع صحي يجعلنا نحس وكأننا نعيش في القرن الماضي.
ثالثا، بالعودة إلى أزمة شيطنة اللقاحات، يجب أن نتساءل، كيف تسللت هذه القناعة في أوساط المغاربة؟
اليوم، إذا ما اقتنعت الجدة، سوف تقنع أصغر حفيد في العائلة، مهما كان المستوى التعليمي والثقافي للأخير.
إنها لعنة استهلاك محتويات مواقع التواصل الاجتماعي من الجميع، بدون لا حسيب ولا رقيب.
ستجد ملايين الأطباء في منصة "تيك توك" لم يلجوا يوما كليات الطب. سوف يصلك مقطع من "يوتيوب" أرسله عمك في مجموعة العائلة على تطبيق "واتساب"، يحذرك فيه شخص من مخاطر تناول أنواع من الأدوية، دون أن يكون صيدلانيا. ستطالع مقالا مطولا أعادت أمك نشره على حسابها في موقع "فيسبوك" يقدم نصائح عن الوقاية من السرطان وطرق العلاج الطبيعية منه، يتذيله توقيع "مؤثر فيسبوكي" لا يفرق ما بين الورم الحميد والخبيث، بل يجهل حتى تعريف المرض.
ما نعيشه، منذ فترة، سببه سلطان الأوبئة الذي يجر معه مضاعفات تحفر، بعنف، في أدمغة تستهلك الجاهز. والأخطر أنها تركت لتواجه مصير تهديد الحياة والصحة العامة في الواقع لأجل سطوة الافتراضي.
تركت دون أن تنتج مؤسسات الدولة مضادات حيوية مجتمعية تستأصل من يقامرون بحياة الملايين، سواء في الواقع أو المواقع.
أخيرا، لابد من إثارة تساؤل مهم جدا، وترك الجواب عنه لمن يهمهم الأمر:
لماذا حالات الإصابة والوفيات بعدوى "بوحمرون" في المغرب مرتفعة جدا، بمدن ومناطق الشمال؟!
في انتظار الأجوبة عن كل ما سبق، هناك حقيقة واحدة نواجهها، اليوم، وهي أن "بوحمرون" وغيره من الأوبئة ينتشرون عبر كابلات وأبراج الربط بالإنترنت، قبل نزولهم لغزو أجساد البشر في الواقع.