وُوجه الاجتهاد على مر تاريخ الإسلام بالرفض، واستأسد البعض على الآخر بحجة الانتصار للنقل وما ورد في السنة على حساب العقل وما جاء به أهل الفلسفة والمتكلمين، وذلك بناء على اجتهادات وشروحات وتفاسير التابعين والفقهاء لما جاء في النص، مع يقين موثق أن كل ما صدر عن مجمع هؤلاء، جاء وفق ما رأوه عن كثب من أحوال الناس، وإن كان مقصدهم منغلقا متصلا لا يشذ عن المرجع أي النص. هذا ولقد كانت اجتهاداتهم في التفسير مرتبطة أساسا بأجوبة عن أسئلة عصرهم حيث صيغت الأولى ردا على الثانية في سياق حكم "دولة الخلافة" وحاجات المجتمع في حينه وإبانه.
ماذا تغير ليتوقف الاجتهاد؟ ولماذا جاهر مؤسسو الفقه والمذاهب علانية بالأخذ برأيهم في الفتوى والتعصب إليه، فيما أتباعهم يحرمون الفعل نفسه اليوم؟
مناسبة هذه المقدمة محاولة فهم ردود الفعل التي عقبت ما ورد في "الدرس الحسني الرمضاني" الذي ألقاه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، الدكتور أحمد التوفيق.
أولا وبعد العودة لمضمون درس الوزير أحمد التوفيق، ومن باب الأمانة التنبيه إلى أنه لم يصدر "فتوى بالتحليل أو التحريم" بل عرض ما هو مندرج ضمنيا داخل بنية واقع لا يرتفع، واقع يعيش المسلمون من داخل منظومته وليس خارجها أو بمعزل وبمنأى عنها، وفق نظام مؤسس على سلطة العرض والطلب، ولا يمكن الفصل فيه بين حركية التاريخ وحاجات البشر ضمن حركيته، حيث تجسدت وتتجسد وفق قاعدة بلوغ تجليات سيرورته وصيرورته، أي التقدم المتتالي للمجتمع وما يرافقه من مجموع التحولات التي يصل إليها.
ولا مرية أن التقدم والتحول ضرورتان تاريخيتان تفرضان الإجتهاد وإن تم الأخذ بمبدأ اكتفاء النص بمسوغاته وبما يحمل في سطره وصدره، بعيدا عن نقاش انعاكس ذلك على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل وحتى الثقافية والذهنية.
حين رفض وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في رأيه المتضمن في "الدرس الحسني الرمضاني"، وضع وصف "الربا" في نفس كفة "الفوائد على القروض" كان الفرض الأصلي هو "دفع الحرج عن ضمير المسلمين وفق أسس حكمة ما أنزل في القرآن للقطع مع جعل الفرد عبدا للديون بفوائدة مضاعفة".
ومرد رأيه يتأسس على أن غاية الدين اليوم من خلال فوائد البنوك، راجع لتحقيق منفعة الإمتلاك أو الاستثمار، إذ أن الأول يجنب الباحث عن إمتلاك عقار الحرمان منه لأسباب مرتبطة بوضعه الاقتصادي والاجتماعي، ويوفر للثاني منطلق رأس مال يحقق من وراءه الربح الذي يكون مضاعفا مقارنة مع أصل الدين.
والأكيد أن ما جاء به شأن تحريم "الربا" في القرآن، فإنه لا يخرج بالأساس عن القطع مع استعباد الناس ببيع المالي بالمال دون تحقيق المنفعة، لذلك تجد أن عددا من الفقهاء أحلوا "بيع العريا" و"الربا غير المشروطة في القرض" و"البيع بالتقسيط".
وتبقى درجات التفسير والتفصيل في كل حالة من الحالات الثلاث المذكورة وفق قناعات الإنتماءات لكل مذهب أو عقيدة.
ومما لا شك فيه داخل هذا المقام، أنه توجب ذكر ما تتضمنه شروط القروض في "البنوك الإسلامية" أو "التشاركية" كما نسميها عندنا في المغرب، ولا تختلف فيها الفائدة المضافة للأصل عن البنوك الأخرى. الأولى تبيع بهامش ربح مضاعف بعد شرائها للأصل لفائدة المدين، والثانية تقسط الفائدة على مدى سنوات له.
يعني أن المدين ملزم بدفع فائدة للدائن في الحالتين مع اختلاف في الطريقة فقط.
وبالعودة إلى عبارة "إحراج ضمير المسلمين" اتجاه التحريم الصريح للفوائد البنكية على أساس أنها هي "الربا" صراحة، وجب أخذ رأي الوزير التوفيق ليس بلسانه، بل بلسان عموم الناس الذين يعنيهم هذا الأمر مباشرة.
هنا وقفت مليا عند تعليقات بسطاء المغاربة وغيرهم، في أجوبتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي إزاء الذين اعتبروا أن الوزير "أجرم في حق الدين". وتجد أن معظمهم يناقش من منطلق الإكراهات والتحديات التي تواجه مجتمعا لا نختلف في أنه مضطرٌ وليس مخيرٌ حين يلجأ لديون الأبناك.
والأكيد أن تفاعل المغربي المسلم عبادة وتعبدا، يختلف عن تفاعل المنتمين لمختلف تيارات الإسلامي السياسي، رغم أن هؤلاء هم أكثر من ينتقون "الاجتهادات" وإن خالفت مذهبهم وشريعتهم حيث ما كان فيها خدمة صريحة لمصالحهم في الدنيا قبل الآخرة.
وهنا أحيلكم للإطلاع على أحد كتب منظر حركة "الإخوان المسلمين" سيد قطب الموسوم بعنوان "العدالة الاجتماعية في الإسلام".
مؤلف كان من أهم ركائزه "نظام الألفة" الذي أسس له "القرامطة" إبان عهد حكم الدولة العباسية السنية.
ورغم أن حمدان بن الأشعث (قُرمط) مؤسس "القرامطة" كان شيعيا إسماعليا، وكانت فرقته من أشد الباطنيين غلوا في التشيع، مع ذلك اقتفى قطب نهجه لغرض ما.
أي أن سيد قطب السني الذي نظر لإحدى أكبر تنظيمات الإسلام السياسي في العصر الحديث، لم يجد أي حرج في وضع أسس اجتماعية سارت عليها جماعته لعقود عدة، واقتفت أثر أدبياتها اقتفاء الحافر بالحافر رغم أنها نابعة من فرقة تعاكس تماما مذهبه وشريعته.
ولا يمكن القفز حين ذكر هذا المثال على إجماع كل الباحثين في التاريخ على وصف "القرامطة" بأنهم "أسسوا لنظام اقتصادي اشتراكي واضح وصريح".
ولفهم أكثر لحاجة الاجتهاد بمقياس وقدر يخدم الفعل السياسي أكثر منه خدمة للديني، أستغل سياق النقاش أعلاه كي أحيلكم على أجود ما أنتجه المفكر بندلي جوزي، والحديث هنا عن مؤلف "من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام" حيث سنركز الإشارة إلى الفصلين الرابع والخامس، اللذان يتحدثان ببحث عميق في التاريخ عن "الإسماعيلية" و"القرامطة"، بل ذهب الكاتب الذي ولد بالقدس حد وصف الثانية بأنهم "شيوعيو الإسلام".
ولا مانع في السياق ذاته، وفي ارتباط وثيق بكل ما سبق، التذكر مرة أخرى، بأن مَنْزِلَة سيد قطب واضع منهج وأسس "العدالة الاجتماعية في الإسلام" هي نفسها مَنْزِلَة الشيخ يوسف القرضاوي الذي يصيح بأن "فوائد البنوك هي الربا الحرام". دون الخوض بطبيعة الحال في أمر تفاصيل منبع تمويلات "الإخوان" من مختلف الأبناك التقليدية منها و"التشاركية"، لأنه عند "الإسلام السياسي" يجوز إحراج ضمير عامة الناس ولا يجوز إحراج "الخاصة" من المنتمين للتنظيم... يجوز التحريم قطعا ضد العامة ولا يجوز ذلك "باطنيا" لمصلحة "الخاصة".
ما يحُز ويقلق في قصة الحملة ضد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد توفيق، وإن كانت تضيق يوما بعد يوم على من يؤسس لها ويحرض عليها ضد الاجتهاد والرأي، أن منطلقات وأسس الذين يقفون خلفها، يحلون لهم ما يخدم مشاريعهم فوق الأرض ويحرمونها بوازع التهديد والتخويف بما فوق السماء.
وكأن منافع الأرض لهم وحدهم دون البقية وعذاب ما فوق السماء لغيرهم. وإن كان الفعل واحدا والهدف نفسه. رغم أن ما جاء به الوزير أحمد التوفيق في حضرة الملك، لم يكن من منبع الابتكار أو البدع أو التحريف، بل رأي مجمع من الفقهاء وأصحاب الفتوى الذين يعيشون وينتفعون من النُظم الاقتصادية والاجتماعية القائمة، الفرق هنا أن التوفيق صدح بما لا يستطيعون قوله خوفا وليس اختلافا مع رأيه، خاصة وأن موضوع "فوائد البنوك" لا يدخل ضمن خانة إسقاط أسس الدين والتعبد، بل إنه من صميم ما أسس له الإمام مالك في موطئه، وهو المذهب الذي اختاره المغرب نهجا لتدينه منذ 12 قرنا. - وإن كان بعض المتخصصين في الثرات يتحفظون على ذلك وججتهم التاريخية الدعوة الموحدية مع مؤسسها المهدي ابن تومرت وقبله الأدارسة إبان مرحلة التأسيس.
وأساسه أنه: "يذكر الأحاديث الواردة في المسألة الواحدة، ثم يذكر قبل كل شيء عمل أهل المدينة بها، وبعدها يعرض لآراء الصحابة والتابعين، ثم يسوق رأيه مبينا ومرجحا".
"يسوق رأيه مبينا ومرجحا" وهنا فائدة من التكرار ولو بعد سطر. لأن الرأي كما ذكرنا سابقا يفيد "الخطأ والصواب"، بل إنه يبقى نابعا من أصل خدمة مصالح الناس مع وجوب استحضار اختلاف الأزمنة حيث يعيشون، دون غلو في استفراد الخاصة من منافع ما يُحرم بقصد على العامة.
وقبل الختم، يمكن العودة إلى واقعة تاريخية موثوقة، تروي نقاشا دار بين ثلة من تلامذة الإمام مالك وأحدهم من "المتمردين" على مذهبه وهو الإمام محمد ابن إدريس الشافعي.
نقاش دار بمصر عن مرد مهاجمة الشافعي لما جاء في "موطأ الإمام مالك". حيث انتصر الأول في جداله لانتقاد تلامذة المذهب المالكي بإنتقالهم من قول: "قال رسول الله إلى قول قال مالك". وكان رد تلامذة مالك أن إمامهم "لا يطبق أصلا واحدا على كل المسائل التي تبدو متشابهة بل بالنظر إلى دراستها كل على حدة مراعيا في ذلك أكثر من أصل".
وزادوه من بيت التأصيل للاجتهاد بالقول: "ترفض الرأي وأنت أول المتأثرين بفقه العراق الذي تأسس الرأي". في إشارة إلى تأثره حين مقامه ببغداد بمذهب أبي حنيفة النعمان، مذهب يعتمد بالإضافة إلى الأصول النقلية المتفق عليها على القياس والاستحسان والعرف وقول الصحابي وشرع من قبلنا، ليتوسع بعدئذ في الإجتهاد بسبب تعقد الحياة وتطور المدنية في البيئة العراقية، واعتماد الأصول العقلية والتشدد في ضوابط الأخذ بالحديث.
جدال انتهى بين الشافعي وتلامذة مالك بالقول الأول: "له اجتهاده ولي اجتهادي... قد أصيب وقد أخطئ".
وكجماع للقول فيما سبق ذكره، أرى أنه وجب التنبيه إلى أن المساطر القانونية التي تفرض الإكراه البدني عقابا على عدم أداء الديون وفائدها، أشد تعقيدا في المغرب مقارنة مع دول العالم، ما رفع قيمة الديون عدم المحصلة لدى المؤسسات البنكية حسب آخر التقارير الرسمية إلى ما يزيد عن 8800 مليار سنتيم.
في المغرب يبحث الدائن مع المدين عن سلك مسطرة الصُلح وليس الاستعباد. والسليم هو التركيز مع ما جاء به وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق في معرض نفس درسه ألا وهو بلوغ درجة تحقيق العدل. هذا ما نحتاجه جميعا إن أردنا خيرا بهذا الوطن، وغير ذلك فإنه لا يعدو مجرد مزايدات لأجل أغراض سياسية وليست دينية إطلاقا.