أحمد مدياني: سوريا.. و"حرب الكلب الضال"!

أحمد مدياني
أحمد مدياني

في منتصف عام 2003، كنا شهودا على أكبر عملية اختفاء جيش نظامي عاصرها جيلنا. لم تكن، حينها، فرص الفهم والتحليل واستقاء المعلومات والمعطيات متاحة، كما هي اليوم. كانت فقط قناة "الجزيرة" مصدر تشكيل الوعي بإكراه، وأي مصدر آخر يدخل في خانة المحرم الذي يتحدث بلسان العدو.

فجأة، وبدون مقدمات، حسب ما كان يصلنا من مشاهد وشهادات وصور، انشقت الأرض وابتلعت الجيش العراقي. نتحدث عن أكثر من مليون و300 ألف شخص كانوا ضمن الخدمة، ليعلن الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج دبليو بوش، يوم 1 ماي من نفس العام، انتهاء العمليات القتالية الكبرى.

في سوريا، نفس المشهد يتكرر، وإن اختلفت المدة الزمنية للصراع المسلح على السلطة. صراع أشعلت شرارته، عام 2011، بمدينة حماة، على إثر خروج مظاهرة عائلة غاضبة من مقتل طفلها الذي خط على جدار مدرسته "عليك الدور يا دكتور"، ووصل، بدوره، محطة إعلان أمريكا انتهاء أحد فصوله، بإخراج أبو محمد الجولاني على قناة "سي إن إن"، تمهيدا لتنزيل الوصول إلى دمشق، وفرار بشار الأسد رفقة عائلته نحو روسيا.

ولا بد، هنا، من الفصل ما بين فترة الصراع على السلطة الذي عاشته سوريا، طيلة 13 سنة، بوجهيه السلمي والمسلح، إبان ما سمي بـ"الربيع العربي"، وما بين ما أفرزته التحولات المتسارعة التي وقعت، منذ نهاية شهر نونبر الماضي.

ومن وجهة نظري وبحكم مواكبتي ذلك الصراع لسنوات عديدة، كنت قد اشتغلت داخل مؤسسة إعلامية دولية، كان ولايزال، مطبخها الداخلي يلعب دور الموجه أكثر من ممارسة مهمة الإخبار.

أيضا، مغامرة خضتها مع بداية إنشاء أولى مخيمات اللاجئين بجنوب تركيا؛ حيث التقيت داخلها، شهر شتنبر من العام 2011، بأولى طلائع الحالمين بالحرية.

فإن هناك حلقات مفقودة كثيرة وجب الوقوف عندها بطرح الأسئلة، الآن لا غير.

أولا: كيف كان من الممكن أن تصل مختلف تشكيلات الجماعات السورية المسلحة وغيرها إلى أكثر من مدينة ونقطة استراتيجية، في مدة وجيزة، حتى أن الفاصل الزمني ما بين إعلان سقوط دمشق بعد حمص لم يتجاوز الست ساعات، رغم أن المسافة بين المدينتين تبلغ 163 كيلومترا، ويمكن قطعها عبر رحلة سياحية في ساعتين، ولكن ونحن نتحدث عن المعارك، يفترض أن يكون الوصول، بوجود مواجهات مسلحة، أشهرا؟!

ثانيا: استمعت إلى تسجيلات صوتية لم يتم التأكد من صحتها، لكن مضمونها هو الأقرب إلى الواقع. تسجيلات يتحدث فيها مجموعة من قيادات الجيش السوري النظامي عن صدمتهم من اختفاء تشكيلات عسكرية من مناطق تمركزها، ومنهم من أكد أنه لم يوجه أي أمر بذلك للمجندين الذين يخدمون تحت إمرته. هكذا، وبدون سابق إرهاصات، يتم فرش البساط الأحمر نحو دمشق، بدون تدخل المقاتلات والدبابات والأسلحة الثقيلة، كما كان يحدث طيلة 13 سنة من المعارك!

ثالثا: ألم يكن انسحاب الجيش النظام السوري من كافة مواقعه، حتى تلك المتواجدة بالشرق والشمال، أكثر تنسيقا من عمليات تقدم المجموعات المسلحة؟!

رابعا: من سيتحمل عواقب تسريح مئات الآلاف من المجندين وقياداتهم؟ تجارب التاريخ تؤكد كل مرة أنهم يعودون، بعد انقضاء الأشهر الأولى لانهيار مؤسسات الدولة. ويؤكد أيضا، أنهم يرتدون خوذات بأكثر من لون.

خامسا: أستغرب من الطريقة التي تمت بها عملية إخراج وجوه الصف الأول بسوريا؛ ومن بينها الرئيس وعائلته. مقاطع الفيديو، التي نشرت من داخل إقاماتهم وسراديبهم المحصنة، تدفع إلى طرح فرضية أن الأمر كان مخططا له منذ أشهر، وليس أيام أو أسابيع.

سادسا: لا يمكن القفز على معطى سرعة انتشار القوات الكردية التي تديرها "الإدارة الذاتية الديمقراطية"، وتدعمها، منذ نشأتها، الولايات المتحدة الأمريكية، بالشرق السوري وأجزاء من شماله، وتوسعها في مناطق، على حساب تراجع الجيش النظامي السوري، مع ما يفرضه تحرك بهذا الحجم من تجهيز العدة والعتاد والتنسيق لأجل ذلك.

سابعا: كيف تحول الجولاني من مطلوب لدى أمريكا مقابل جائزة مالية قدرها عشرة ملايين دولار إلى وجه دعائي لهذا التحول السريع؟! بل ويطل على العالم، عبر القناة الأمريكية الأولى الأكثر انتشارا. مع وجوب التذكير بأن أحمد حسين الشرع كان اليد اليمنى لأبو مصعب الزرقاوي في العراق، ثم امتدادا لأبو بكر البغدادي في سوريا، وبعدها العودة إلى أحضان "تنظيم القاعدة" بعدما أسس "جبهة النصرة". وبعد كل هذا، إعلان نفسه "أميرا" على "هيئة تحرير الشام". وأخيرا، التسويق له بوصف "قائد إدارة العمليات العسكرية" التي أعطيت لها مهمة تسريع خروج بشار من سوريا.

متى تغير الرجل؟ وكيف تغير؟ ومن أقنعه بأن يتغير؟ مع ضرورة عدم إسقاط أن من يقودهم بأرض الميدان، اليوم، جمعتهم مهمة إسقاط نظام البعث السوري، وفرقتهم أشياء كثيرة تشكل حتى ما هو عقائدي.

ثامنا: ما مدى حاجة قطر وتركيا إلى وجه جديد من طينة الجولاني في المنطقة؟

تاسعا: هل كانت تعرف إسرائيل، مسبقا، بكل هذه التحولات، ما سهل عليها تنفيذ توسع احتلالي جديد على الأراضي السورية، واستهداف مواقع عسكرية وعلمية ومخابراتية بالقصف الجوي وسط دمشق؟!

ونحن، هنا، نتحدث عن خطوة تحتاج إلى الضوء الأخضر من حلفائها قبل تنفيذها، ولدراسة كل الاحتمالات التي يمكن أن تفرزها؛ بما فيها أسوأ سيناريوهات فتح جبهة جديدة مع من يُفترض أن عقيدتهم تشمل تحرير فلسطين من المحتل.

واحتمال معرفة إسرائيل بهذه التطورات، قبل أشهر، يقود إلى طرح السؤال العاشر والأخير: هل يمكن القول إن بشار الأسد فاوض خروجه من سوريا بالإمارات العربية والسعودية؟

كل هذه الأسئلة تسمح باستعارة واقعة "حرب الكلب الضال" التي نشبت بين اليونان وبلغاريا. طالت 10 أيام، وانتهت بتقديم اعتذار وأداء غرامة.

مواجهة مسلحة اندلعت، شهر أكتوبر من العام 1925، بسبب قتل الجيش البلغاري لجندي يوناني تجاوز الحدود دون أن ينتبه، بسبب بحثه عن كلبه الذي اختفى عن أنظاره.

والأكيد أنه خلف واقع تسارع الأحداث بسوريا هناك "كلب ضال" حسم ما عجزت عنه مختلف القوى المحلية والدولية بكل الأساليب، طيلة السنوات الماضية.

وحيث ما يوجد مخبأ "الكلب الضال"، توجد الأجوبة التي تزيح استعصاء فهم ما وقع وما سوف يقع، دون إسقاط أنه، إلى حدود اليوم والساعة، لم نجد بعد، بالضبط، أين يختبئ في العراق.

مواضيع ذات صلة