أحمد مدياني: صمت مخيف!

أحمد مدياني
أحمد مدياني

تحتاج كل المجتمعات للفعل وردود الفعل، لتضمن استمرارية الحركية داخلها، وتتجنب أهوال الصدمات المفاجئة أو الطارئة، تلك التي تنتج عن تراكم متغيرات اقتصادية واجتماعية مختلطة بفقدان الأمل، خاصة إن غاب ما يؤطرها، سياسيا ونقابيا وجمعويا.

أول يوم أمس السبت، داخل سيارة أجرة كبيرة بمراكش، استرقت السمع، مكرها، إلى محادثة هاتفية بين سيدة وأخرى. يظهر أن الأولى مكلفة بتسويق خدمات ابنتها في الحلاقة والتجميل. نشاط تحترفه بمنزلها؛ حيث تستقبل اللائي تبحثن عن تصفيف شعرهن ونثر بعض مساحيق التجميل على وجوههن.

الثانية، تفاوض على تخفيض مقابل استقبال ثلاث فتيات. طلبت أن تؤدي كل واحدة منهن مبلغ 100 درهم، عوض 150.

لتجيبها الأولى، وهنا التفت إليها، لأحاول قراءة ملامحها، حين قالت وكررت: "شوفي أختي، دبا راه 10 دراهم طيح عليها الروح... بزاف على البنت تحيد ليك 50 درهم في الوحدة...".

جواب السيدة يلخص واقع حياة السواد الأعظم من المغاربة. شعبٌ حارت مكاتب الدراسات في فهم كيف يواصل مواجهة الارتفاع الفاحش لكلفة المعيشة. ومع ذلك، يواصل الأكل والشرب والنزول إلى الأسواق وركوب مختلف أنواع الدواب الحديدية العمومية منها والخاصة.

ما هو مؤكد في معادلة مواصلة مقاومة المواطنين للسكتة الاجتماعية والاقتصادية، عوامل رئيسية، بعضها محدد، والآخر مساعد.

العامل الأول الرئيسي المحدد يتمثل في استمرار حضور منطق التكافل الاجتماعي، خاصة داخل الأسر المركبة؛ حيث يواصل الأجداد والآباء والأمهات ضمان تحمل أعباء توفير المسكن، والمأكل، والرعاية، أيضا، لأكثر من جيل. صمام أمان لا يمكن أن يصمد لأزيد من عقد آخر قادم، بفعل التحولات التي طرأت وأخرى قادمة ستغير مفهوم الأسرة ومقوماتها.

العامل الثاني في هذا الباب هو سطوة الأنشطة الاقتصادية الرمادية بمختلف مستوياتها. ونجد هنا أن ملايين المغاربة، وخلفهم مئات الآلاف من الأسر، يعيشون وفق قاعدة "الجورني"؛ أي ما يأتي به رزق اليوم، مع تشبثهم بمنطق توفير الأساسيات لا غير، بل يذهبون حد التضحية بالتعليم والصحة داخل الأسرة، وحينما يصل فردٌ منها إلى سن يسمح له بضمان استمرار توفير "الجورني"، يلتحق بركب أسلافه.

أما العامل الثالث الرئيس والمحدد؛ فهو خيار فئات اجتماعية كثيرة تدبير حياتها بالقروض. لم يعد المغاربة يقترضون من الأبناك ومؤسسات السلف بغرض شراء مسكن أو الاستثمار في مشروع، بل أصبحوا يلجؤون إليها لمواجهة توفير الأساسيات أو ضمان عيش بعض الكماليات التي تتبخر وسطها أموال كثيرة مقابل فوائد أكثر.

وإن سألت فئات واسعة من المغاربة، خاصة الطبقات المتوسطة بكل درجاتها، ستجد أن الديون في حياتهم تحولت إلى صخرة سيزيف فوق ظهورهم، يصعدون الجبل بواحدة، وما إن يصلوا حتى تتدحرج مرة أخرى نحو سفح الحاجة لقرض آخر، قصد تجاوز أزمة أفرزها الذي قبله.

أما باقي العوامل الرئيسية المساعدة، فألخصها في عدد من البرامج التي تنزلها الدولة أو وسطاؤها، خاصة المرتبطة بكل أشكال الدعم الاجتماعي المباشر.

وأنا على قناعة دائمة بأن سياسة "إحسان الدولة" هذه لا تمنع الفقر، بل تطيل مقامه.

لماذا؟

لأن الأفراد يتربون على ضرورة استمرار نفس شروط إطالة الاستفادة، عوض تربيتهم على الخروج من دائرة الحاجة إليها.

لأن الحاجة تبقى كما هي، مهما كانت قيمة صرف مساعداتها.

أسعار اللحوم الحمراء منها والبيضاء "ضربت فوت السقف". المحروقات، وباعتراف رسمي من مسؤولي الدولة عندنا، هي الأغلى حول العالم. ارتفعت الضرائب على كل المنتجات والسلع المحلية منها والمستوردة. بغيتي التعليم خلص. احتجت الصحة خلص. ولا تسأل عما لا يزال عندنا ضمن قائمة الكماليات.

ورغم كل هذا، لا أحد يحتج، ولا أحد ينزل إلى الشارع للتعبير عن أنه هناك أشياء كثيرة ليست على ما يرام.

ذات يوم، سألني مسؤول في الدولة: "ما رأيك في تراجع منسوب الاحتجاج بالمغرب؟"

أجبته: "هذا الصمت مخيف... وحقيقته لا ولن تعكسها التقارير فقط. لو كنت مكان الدولة، لبحثت عمن يخرجون للاحتجاج. يجب أن ترى الغاضبين من الأوضاع أمامك. إن ظلوا مختفين، فلن تعرف بالضبط من يستثمر اليوم في هذا الغضب المكبوت، لأجل فرصة ما قد تأتي غدا أو بعد غد!"