لم يتوقع المتهافتون الأوائل من تجار المواقف إن كانوا يملكونها أصلا، أن يصل قطار نضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية وإنهاء الاحتلال، محطة صعود قادة عدد من الدول الغربية للجلوس رفقتهم بمقطورة الاعتراف بالدولة الفلسطينية مستقلة وحرة عاصمتها القدس.
أن يتوجس رؤساء ومنتخبون من إمساك الناخبين ببوصلة موجهة نحو فلسطين وهم يختارون الورقة التي سيضعون داخل صناديق الاقتراع.
أن تتحول ثقافة المقاطعة الاقتصادية من دوائر ضيقة إلى فئات أوسع وأشمال تتجاوز حدود الإنتماء للدين الواحد واللغة الجامعة.
سيتبدى هذا التوجس وهذا التحول، يومه الأربعاء، حينما وضع رئيس الحكومة الإسباني بيدرو سانشيز ختم خيار الدولة على ظرف رسالة حق الشعب الفلسطيني بقيام دولته. حين شدد على أن "الاعتراف بدولة فلسطين في مصلحة الاتحاد الأوروبي".
نفس الموقف بصم عليه وزير الخارجية الإيرلندي مايكل مارتن يوم أمس الثلاثاء في دبلن، حين أعلن أن "بلاده تعتزم التحرك للاعتراف بدولة فلسطينية خلال الأسابيع المقبلة".
موقف تعزز ما أبداه قادة إسبانيا وأيرلندا وسلوفاكيا ومالطا في بيان مشترك شهر مارس المنصرم بإعلان استعدادهم للاعتراف بدولة فلسطينية.
نعم، كانت كلفة الخسائر في الأرواح خاصة في أوساط المدنيين من النساء والأطفال وكبار السن ثقيلة، لكن القاعدة التاريخية المؤلمة، تؤكد دائما أنه لا تحرر بدون تضحايات جسام.
الفلسطينيون في قطاع غزة وطيلة عقود كانوا يعيشون الموت البطيء جراء الحصار والتجويع وقطع كل سيل العيش. ومع ذلك فقد خرجت القضية الفلسطينية من غرفة إنتظار إنهاء الاحتلال، لتدخل بعدئذ رفوف النسيان وجعل ملفها مجرد أرشيف يلجأ إليه البعض بغرض المساومة أو إحياء محطة من محطات نضال الشعب الفلسطيني التي أصبحت بدورها مريضة بالطابع الاحتفالي عوض الترافع لأجل القضية.
تحمل الفلسطينيون لعقود عدة تفرج العالم على مأساتهم.. سقوط آخر قلاع دعم قضيتهم تحول إلى خبر استشهاد الآلاف منهم برصاص جيش الاحتلال أو الجوع والمرض لأخبار روتينية تُنقل عبر الإعلام لضرورة الإخبار لا غير.
اختاروا أن يتحركوا ويعيدوا لقضيتهم زخم حضورها بقوة على طاولة سياسات قادة الدول والهيئات الأممية والإقليمية.
نجحوا عبر علاج ضمير الإنسانية بالصدمة في أن تكون المواقف من الحرب والعدوان على الشعب الفلسطيني ضمن برامج الطامعين في كراسي الرئاسة.
ذلك ما يؤكده التحول في لغة خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن، والذي صرح ما من مرة أنه "صهيوني أكثر من الصهاينة المنتمين إلى الحركة بحكم الدين المعتنق" استشعر أن مطمع تجديد ولايته الرئاسية مهدد بموقفه الداعم دون قيد ولا شرط لإسرائيل.
وتحولت المواقف داخل البيت الأبيض من الدعم السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والعسكري المطلق للاحتلال وجرائم إبادته، إلى القول كما جاء على لسان بايدن في مقابلة يوم أمس الثلاثاء، إن "سياسة رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو في غزة خاطئة".
مقابلة صحفية حث فيها بايدن إسرائيل على الدعوة إلى وقف إطلاق النار.د، وهو الذي عارضت دولته أكثر من مرة مرور القرار عبر مجلس الأمن الدول باستعمال حق "الفيتو" قبل أن تختار أمريكا الامتناع عن التصويت داخل المجلس حين طرح القرار آخر مرة.
وصرح بايدن لشبكة "يونيفيجين" الأمريكية الناطقة بالإسبانية، عندما سئل عن طريقة تعامل نتانياهو مع الحرب "أعتقد أن ما يفعله هو خطأ. أنا لا أتفق مع مقاربته".
دائما ما يبحث الراغب في الجلوس على كرسي رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عن كسب ود اللوبي الصهيوني، ويكون الأخير من حدد حشد الدعم المالي والسياسي، بل من أسس توجيه الناخبين الأمريكيين: هل لصالح مرشح الديمقراطيين أم الجمهوريين، بناء على من يخدم مصالح اللوبي فوق كل شبر من الكرة الأرضية؟
معادلة تزحزت إلى حد كبير، رغم كل ما اقترف من بروباغندا، داخل المجتمعات الغربية ومنها أمريكا لتجريم المقاومة في فلسطين، وحرم شعبها من حقهم في النضال من أجل حريته.
شهر دجنبر من العام المنصرم، أظهرت نتائج استطلاع للرأي نشرته صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، أن "أغلبية الشباب الأمريكيين بين 18 و24 عاما، تتبنى مواقف غير داعمة لإسرائيل بل ومناهضة لها أحيانا".
ومن بين أبرز الأرقام التي جاء بها استطلاع الرأي الذي أجراه "معهد هاريس" و"مركز الدراسات السياسية الأمريكية" بجامعة هارفارد، شمل ناخبين أمريكيين من شرائح وفئات عمرية مختلفة، أن 51 في المائة من الشباب الذين تم استطلاع آرائهم يعتقدون أن "الحل الطويل الأمد للصراع هو إنهاء إسرائيل وتسليمها للفلسطينيين".
بل أكثر من ذلك، فإن نسبة 76 في المائة من الأمريكيين الشباب أصبحوا يرون أن حركة "حماس" منظمة "يمكن التفاوض معها لتحقيق السلام".
مواقف صادرة من مجتمع قليلا ما يهتم بالسياسات الخارجية لبلاده، خاصة الشباب منه. تحولت عنده المواقف من القضية الفلسطينية والحرب على غزة محددا من محددات التوصيت في الإنتخابات الرئاسية القادمة.
لذلك يصح القول: "إذا ظهر السبب بطل العجب" تجاه التحول في مواقف جون بايدن تجاه بنيامين نتنياهو وآلاة الإبادة التي يقودها منذ أشهر، ضد شعب أعزل دون أي اعتبار للمواثيق والقونين الإنسانية والدولية.
وبالحديث عن حجم التحولات التي أحدثتها المقاومة الفلسطينية، لا يمكن القفز على سلاح مقاطعة كل الشركات والمنتجات التي تبجحت بدعم جيش الاحتلال في عملياته، خلال بداية تصعيد العدوان على قطاع غزة.
والمثير في استخدام هذا السلاح، الانتقال من اعتماده لسلوك استهلاكي من طرف من يجمعهم الإنتماء مع فلسطين بوازع الدين أو اللغة أو المواقف السياسية والأيديولجية، إلى سلوك تبنته شرائح أوسع، خاصة في الغرب.
ثقافة مقاطعة امتدت لتصل إلى أصغر الحلقات داخل المجتمعات بمختلف شرائها وفئاتها العمرية.
هنا لا مانع من أنقل لكم تجربة شخصية عشتها داخل أسرتي الصغيرة. لدي طفلتان تبلغان من العمر 8 و5 سنوات، لم يسبق أن أثرنا معهما ولو بالتلميح لما يحدث في فلسطين. يوما ما وفي طريق العودة من المدرسة إلى المنزل، قالتت البنت البكر، أنه "يجب التوقف عن استهلاك ماكدو لأنها تدعم إسرائيل وعدم شراء منتجات من أمريكا لأنها تمنح السلاح الذي يقتل به الأطفال من سنها في فلسطين".
ببراءة تفاعلت معها أختها الصغرى لتؤيد ما قالته. سألتهما: "هل سمعتما هذا داخل القسم؟ ومن أخبركما بذلك؟"
ليأتي الجواب من الكبرى بعفوية: "لا بابا. صديقتي (ن) حملت معها وجبة ماكدو إلى المدرسة، وفي المطعم رفضنا عرضها بدعوتنا لتقاسم الطعام معها".
أعدت طرح السؤال بالتشديد على معرفة مصدر الموقف النابع من طفلة اعتادت قول الصدق والبوح بما هو كائن.
وأعادت بدورها التشديد على أنه لم يصدر عن مسؤول أو إطار تربوي داخل المؤسسة التعليمية، بل كان نتاج تفاعل بين الأطفال، نتيجة حضور وجبة "ماكدو" داخل مطعم المدرسة.
الأكيد أن أسرة من بين عشرة حول العالم طرح عندها نقاش المقاطعة. وتبادل أفرادها اختياراتهم الإنتخابية بمحدد الموقف من حرب الاحتلال الإسرائيلي على غزة.
تحولات لا يمكن معها بأي شكل انكار أن فلسطين تنتصر.