أحمد مدياني: في حضرة الدولة

أحمد مدياني
أحمد مدياني

أين الخلل؟! سؤال كررته أكثر من مرة، في حضرة لقاء تواصلي نظمه المجلس العلمي الأعلى برئاسة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، صباح يوم أمس الأحد بالعاصمة الرباط.

حضر كل رجالات الدولة، وكانت جل المساهمات بعيدة عن الخطاب الرسمي، دون فرامل حساسية المنصب والمسؤولية. كلمات قريبة جدا مما يتطلبه هذا الوطن، لأجل حذف فارق سرعتين، حان الوقت لكي ينحرف خطاهما المتوازيان نحو نقطة انطلاقة واحدة.

كان موضوع اللقاء "التنمية". وفي نقاش أعطابها ومتطلباتها، حضر الخطاب الديني تجاوره أسس الفكر الفلسفي وعلوم الاجتماع. حضر الأمن والقضاء والاقتصاد وهم الماء، بالإضافة إلى مواضيع الصحة والمجتمع المدني وحقوق الإنسان..

بعد كل كلمة، كان يتحدث ويتفاعل بأريحية. يعلق في دقيقة على المضامين التي تم عرضها أمام الحضور. يلخص بذكاء رسائل المسؤولين والوزراء ورؤساء المؤسسات الدستورية، مهما اختلفت تخصصاتهم. ثم يصدح بتعليق خاطف، يظهر معدن رجل الدولة بعيدا عن ترتيبات البروتوكولات.

يستقبل كل متدخل فوق المنصة بما يليق مسؤوليته أو مهمته. ثم يودع آخرا بنفس الحمولة.

نعرفه بصفته الوزارية، بعضنا خبر جوانبه الأدبية بقراءة رواياته، وأنا أعرف القليل عن طفولته، بحكم تقاسمه مقاعد حجرات الدراسة الابتدائية مع والد زوجتي، المعتقل السياسي السابق والمفكر علال الأزهر.

إنه الوزير أحمد التوفيق، الذي كان موفقا جدا في تقديم نفسه أمامنا، أو أمامي أنا على الأقل، بثوب المسير الذي لم يجد حرجا في البوح بعبارة أقرب إلى الوقف، لخصت الهدف الأساسي والرئيسي من عقد اللقاء التواصلي، وجاء في فحواها ما يفيد:

"نعلم أن التراكمات خلقت حالة نفور تجاه الحكم والحاكم وهذا ما يجب أن نعمل على تبديده".

ختم العبارة بابتسامة تفاؤل، تفاعل معها الحاضرون بنفس الملامح، مع اختلاف في درجة التبسم وفق ما تفرضه صفة الحضور للقاء.

لم أفوت التفاعل مع شخصية وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية التي اكتشفتها توا، لذلك اخترت طرح سؤال واحد على أحد أعضاء ديوانه، هو: "من قرر أن يكون الوزير هو المسير؟"

أجاب المستشار: "تفاجأت بسؤالك. لكنه مهم جدا. اقترحنا عليه أكثر من اسم لتسيير اللقاء التواصلي، لكن السيد الوزير ألح على أن يتكلف هو بالمهة. قال لنا هذا لقاء من مستوى آخر، يجب أن يقود نقاشه وزير القطاع".

شخصية أخرى كانت من نجوم اللقاء التواصلي. بوبكبر سبيك، المفتش العام للشرطة الناطق الرسمي باسم المديرية العامة للأمن الوطني.

بثقة عالية جدا. سلاسة في التواصل. توزيع للنظرات على كل كرسي وصف بالقاعة. قليلا ما كان يحني رأسه تجاه الطاولة حيث وضع الأوراق التي كتبت عليها كلمته. ومع ذلك، وبالنظر إلى كل الأرقام والمعطيات والدراسات والتقارير التي تضمنتها، مرت مداخلته بصفر خطأ.

هذا من حيث الشكل. أما المضمون، فيلخص الحاجة لفهم الأمن في المغرب، لأنه يظهر أنه فهمنا ويفهمنا أكثر من أنفسنا. ولا أبالغ إن قلت: سبيك تعبير عن قوة تواصل المديرية العامة للأمن الوطن حين تستهدف الأسس، سواء كانت تهم الدولة أو المجتمع.

وما قدمه في ربع ساعة، يساوي ما تنتجه عشرات مكاتب الدراسات التي تلتهم ملايين الدراهم، دون إعطاء ربع التشخيص السليم الذي جاء به سبيك بلسان مديرية الأمن.

ولم تقف المساهمة عند حدود التشخيص، بل انتقلت لطرح مقترحات تحمل نفحة مؤسسة مقتنعة بأن دورها ليس الردع فقط، بل الانخراط في كبح ما يوصل إلى إكراه اقترافه.

"عندما لا يكتب السيد الرئيس المنتدب كلمته، نعرف أنه سوف يبدع في تدخله". بهذه الكلمات، رد أحد مستشاري الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، محمد عبد النباوي، على إعجابي بمجمل كلمته، مع تسجيل تحفظي على تحميله إفرازات المجتمع جل مسؤولية أعطاب القضاء.

تحدث عبد النباوي بعفوية وطلاقة تمزج بين اللغة العربية الفصحى والدارجة المغربية. كان ينتقل في كلمته المسترسلة من فكرة إلى أخرى، وما بين فصول كل واحدة منهما، أتنهد، مع ترديد أمنيات أن تفهم كل منظومة العدالة ما جاء على لسان الرجل، وتنزله وفق قدسية مهام ورسائل القضاء.

تعرفت، أيضا، على زينب العدوي الإنسانة وهي تسوق أمثلة من المجتمع، وبدورها كانت كلمتها متجردة، إلى حد كبير، من ثقل مسؤولية رئاسة المجلس الأعلى للحسابات.

كما أكد فوزي لقجع أنه وزير استثنائي، وتميز بكلمته عن باقي زملائه في الحكومة. وجعلنا الوزير السابق خالد آيت الطالب، نعتقد بأننا في حضرة الوزير الحالي!

وكان ملح المناسبة، حضور رئيس الحكومة السابق سعد الدين العثماني. حضور اعتبرته تعبيرا عن اقتناع الدولة بمنطق الوصل لا الفصل، مهما تم تسويق أن هذا البلد غير قادر على استيعاب الكل، مهما اختلفت مشارب تصريف قناعاتهم.

انتهى اللقاء التواصلي على وقع الحسرة.

لماذا؟

أولا، تمنيت لو كان من بين المتدخلين وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت. كنت أتمنى الإنصات للرجل في مثل هذه المناسبات الاستثنائية.

ثانيا، لأن الجلوس في حضرة الدولة فرصة لا تتكرر كثيرا. وما هو متاح للأسف، بشكل دائم، التفرج على من يتوهمون أنهم الدولة.

بدأت المقال بسؤال عن الخلل. وسأختمه بجواب متفائل:

يمكن أن يتبدد الخلل في حضرة الدولة.