أحمد مدياني: قراصنة الاقتصاد المغاربة.. حين توفر شروط اغتيال السيادة الوطنية

أحمد مدياني
أحمد مدياني

"توفير الطعام وأدوات الطبخ والبنى التحتية لمطابخ تحضير الحساء من أجل إطعام أفواه الجائعين"... إلى هذا الحد نزل سقف مطالب الحركات النقابية والاجتماعية في الأرجنتين، الدولة التي كانت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ضمن قائمة الدول العشرة الأغنى في العالم، بل تسبق كلا من فرنسا وألمانيا وإيطاليا.

ولفهم أصل الحكاية، وجب الوقوف عند يوم 29 من شهر يوليوز عام 2004، حين اعترف صندوق النقد الدولي بأنه أخطأ في كل السياسات الاقتصادية التي اقترحها، بل فرضها، على البلد، وجاء الاعتراف بالخطأ في تقرير صادر عن "مكتب التقييم المستقل التابع له".

بلغت نسبة البطالة في الأرجنتين، حسب آخر الأرقام الرسمية، 30 في المائة، ويشكل من يعيشون الفقر المدقع نسبة 35 في المائة. مع أن معدل دخل الفرد كان يعادل 92 في المائة من متوسط دخل الفرد لدى الاقتصادات ال16 الأغنى في العالم، وكانت الأرجنتين وجهة أساسية لدى المهاجرين الأوروبيين الباحثين عن فرص العمل.

انتقلت البلاد من تحقيق نسبة نمو اقتصادي بلغت 6 في المائة مطلع القرن الماضي، وكانت الأسرع نموا مقارنة بجميع دول العالم إلى دولة تحاول الصمود فقط لتوفير قوت يوم مواطنيها.

أوضاع اقتصادية صعبة تتفاقم سنة بعد أخرى، لتأتي النكسة الكبرى، بإقرار "برنامج الصدمة"، بعدما تخطت ديون البلاد 147 مليار دولار.

كيف وصلت بلاد كانت تتجه نحو تقاسم عرش الاقتصادات الأغنى عالميا إلى دولة يتسول شعبها الطعام؟!

الجواب تحمله كل السياسيات الاقتصادية التي فرضها صندوق النقد الدولي، بمساعدة أساسية ورئيسية من الذين تعاقبوا على حكم البلاد، وأغلبهم جاؤوا من نافذة الانقلابات؛ سواء عسكرية أو من داخل "صناديق اقتراع" معدة وموجهة حسب طلب من سلبوا البلاد سيادتها الاقتصادية ثم السياسية والاجتماعية.

وأبرز هذه السياسات فتح السوق الداخلية للبلاد بدون تعريفات جمركية لدخول السلع، خاصة الزراعية والغذائية منها، والرفع من قيمة الضريبة على القيمة المضافة، مع خفض نفقات الدولة على دعم شراء المواد الاستهلاكية والأساسية، والحد من تحمل الحكومة لنفقات توفير التعليم العمومي والرعاية الصحية المجانية، مع تفويت الشركات والمؤسسات الوطنية للخواص الأجانب... وغيرها من توجيهات ربط الأرجنتين بما ينتزع منها القرار لصالح الدولة والشعب.

عالم الاقتصاد الأمريكي جون بيركنز أصدر كتابا هز العالم، ومن محاسن الصدف أنه نشر خلال نفس العام الذي أعلن فيه صندوق النقد الدولي "اعتذاره عن مساهمته في قتل الاقتصاد الأرجنتيني"، أي عام 2004.

وحمل الكتاب، الذي تُرجم لأكثر من 30 لغة، عنوان "اعترافات قرصان اقتصادي.. الاغتيال الاقتصادي للأمم". كتاب يلخص كل ما اقترفته الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها دول الغرب، بغطاء مؤسسات القروض و"التنمية" الدولية، ضد دول لم تخرج أبدا من دوامة الفقر، وأخرى بقية حبيسة قاعة انتظار الطريق نحو النمو.

وبتقييم لكل ما اقترفته الولايات المتحدة منذ العام 1945 حين شرعت في إغراء الدول بقروض منخفضة الفائدة، عبر صندوق نقدها الدولي، تجد أن كل ما تضمنه كتاب بيركنز، الذي جاء على شاكلة سيرة ذاتية عمقها نقذ ذاتي، يلخص كيف انتقلت قوى الاستعمار من إنفاق الأموال على الوجود العسكري لنهب الخيرات والتحكم في السيادة السياسة والاقتصادية، وحتى الاجتماعية للدول، إلى منح من يحكمها قروضا من أجل أن تنفق هي على بلوغ نفس الأهداف.

ويعترف بيركنز في كتابه بأنه كان واحدا من "قراصنة الاقتصاد"، وكيف ساهم في إرغام الدول عبر التهديد أو رشوة من يجلسون على كراسي حكمها، بقبول تطبيق ما تمليه المؤسسات المالية الدولية، لصالح أثرياء يتنفسون هواء صناعة الأزمات وإطالتها.

هناك أمثلة كثيرة لا يسع هنا المجال لذكرها، تفضح كيف لم تكن إطلاقا قروض المؤسسات المالية الدولية نعمة بل نقمة. ولم تخرج قروضها أو منحها ولا حتى مساعداتها "المجانية"، أي دولة من الفقر، أو وفرت الحدود المقبولة من التنمية والرفاهية لمواطنيها.

كيف كانت كل المساعدات غطاء للإبقاء على التبعية بإعادة إنتاج سلاسل الفقر، والتطبيع مع سيادة سياسة إحسان الدولة تجاه الشعب، عوض توفير شروط نموه.

يمكن أن نذكر مثالا آخر من قارتنا الإفريقية، وهو قريب إلينا في شق سوف نتطرق إليه هنا. وهي زامبيا التي كانت تعيش إلى غاية العام 2002 اكتفاء غذائيا ذاتيا، قبل أن يفرض عليها صندوق النقد الدولي حزمة قرارات اقتصادية لقبول منحها قروضا ومساعدات مالية، وكان أخطرها إلغاء التعرفة الجمركية على واردات البلاد من المنتجات الغذائية.

ماذا كانت النتيجة؟

تفقير المزارعين بعد إغراق سوق زامبيا بالمنتجات القادمة من دول أوروبا، وانتزاع سيادة الدولة على ثرواتها المنجمية، حتى أصبحت لا تخطو خطوة استثمار واحدة فيها دون تلبية رغبات مطامع خارجية، ووصل بها الحال، مثل غيرها، بعد 21 عاما من الجلوس داخل قاعة مدرسة صندوق النقد الدولي، لتكون بدورها خاتما يزين مختلف أصابع "أسياد القرار الغربي".

حتى أنها فشلت العام الماضي في إعادة جدولة ديونها البالغة 6,3 مليار دولار لفائدة دائنيها الرئيسيين من خارج البلد، بعدما عجزت عن التسديد منذ العام 2020، قبل أن تتدخل فرنسا خلال قمة نظمت بباريس شهر يونيو من العام 2023، لتعلن التوافق حول قبول إعادة جدولة الديون.

مقابل كل هذه الأزمات التي تغرق فيها الدولة الإفريقية، تخرج المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، بتصريح قالت فيه: "نشيد بسياسة رئيس زامبيا هاكيندي هيشيليما وبإعادة الهيكلة الفعالة".

كريستالينا تشيد بهيشيليما الذي يحكم البلاد منذ العام 2006، ليس لأنه أنهى ديون بلادها وحقق ما يخرجها من التبعية الاقتصادية، بل لأنه أعاد هيكلة هذه التبعية وأطال أمدها.

شهر فبراير من العام الجاري، زار المغرب وفد من صندوق النقد الدولي الذي أعاد عزف نفس ألحان قصة عازف الناي، صائد الفئران الذي لم تدفع القرية مقابل الخدمة التي أسداها إليها، فقام بحرمان أهلها من مستقبلها (أطفالها) حتى يسترد دينه كاملا.

ألحان: تحسين إيرادات الدولة الضريبية لتعزيز ضبط الأوضاع المالية العامة؛ توسيع نطاق الحصول على الرعاية الاجتماعية والدعم الموجه للفئات الهشة؛ زيادة دور القطاع الخاص في الاستثمار؛ إعادة النظر في رسوم استهلاك المياه؛ واستئناف تعويم الدرهم...

دون إسقاط توصيات سابقة برفع الدولة ليدها عن التعليم والصحة؛ وخفض الدعم الموجه للمواد الاستهلاكية والأساسية...

ما يقلق باستحضار هذه التوصيات التي طُبق ويُطبق منها الكثير وإن بتدرج، هو أنه حين يتعلق الأمر بما يمس الحياة اليومية للمواطن المغربي، تسرع الحكومات مهما اختلف لونها السياسي للاستجابة إليها وتنزيلها.

الحكومة تُقنع المغاربة من خلال لغة البلاغات الجافة بأنها في صالح التنمية والنمو، رغم أن أرقام المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية الرسمية في المغرب، تخرج بتقارير أرقامها تتحدث عن عكس ذلك.

ولو كنت من الذين يقررون في توسيع سلة الضرائب بالمغرب، أو من خارجه، لفرضت سن ضريبة جديدة على "التصريح بالأرقام"، لأنه في كل مرة يعلن مسؤول عن رقم نمو أو استثمار أو ربح ولا يحاسب عليه في ما بعد!

أما حينما يتعلق الأمر بالقطاعات "الماكرو اقتصادية"، التي يتحكم فيها من يجمعون السلطة مع الثروة، تتردد الحكومة كثيرا في الاستجابة إليها، لأنها جزء من غنائمها، بل لا تطبق أي توصية تمس محمياتها الاقتصادية.

وخير دليل على ذلك، قروض فرضت على التجارة الإلكترونية كان يتنفع بها ومنها عشرات الآلاف من المغاربة، لصالح قلة قليلة زاحمهم الباحثون عن تنمية ذاتية، فاختار أقاربهم في السلطة الحكومية اشهار ورقة "السيادة الوطنية" لصالح المنفعة الذاتية.

سيادة تسقط حين يتعلق الأمر بالفئات الوسطى والهشة والفقيرة، وتُرفع حين تكون في صالح المتنفعين من خيرات الوطن وعائدته.

وأعتقد هنا أن هذه الوصفة المتناقضة قد تجر في المستقبل ويلات أخطر من فقدان السيادة تجاه الخارج بل إسقاطها حتى في الداخل.

لذلك، وجب التنبيه والحذر من "قراصنة الاقتصاد المغاربة"، خاصة وأن هؤلاء لن يتوقفوا يوما من أجل الاعتراف بأنهم "اغتالوا الاقتصاد الوطني".

ووجب تذكير هؤلاء، إن كان يهمهم أصلا، بأن موقع "إنسايدر مانكي"، المتخصص في التصنيفات والتحليلات المالية والاقتصادية، وضع المغرب ضمن قائمة الدول الأكثر مديونية لصندوق النقد الدولي.

دون إسقاط عامل محدد مهم، وهو أن المؤسسات المالية الدولية، ومن يحركها من وراء ستار، تزداد مطامعها لنزع السيادة بالقوة الناعمة، كلما اترفعت توقعات استخراج الخيرات من باطن الأرض، وتوفرت شروط الغزو الجديدة.

لماذا ربطنا في السابق ضمن هذا المقال بين واقع زامبيا اليوم ومستقبل المغرب غدا، حين تطرقنا للقطاع الزراعي أو الفلاحي كما نسميه نحن.

الجواب هو أن الكل المؤشرات تذهب بنا نحو فقدان المغرب لسيادته الغذائية، حين قرر التخلي عن الزرع، وفق خصوصيات المناخ والتربة والتضاريس، لأجل عيون ليس فقط المؤسسات المالية الدولية، بل لأن من احتكر السلطة على القطاع الفلاحي بالمملكة، يأخذ بتقارير وهمية صادرة عن مكاتب دراسات أجنبية، ولا ينصت لمن حرثوا الأرض وزرعوها وحصدوها طيلة قرون، وهؤلاء الأولى في كل المجالات بالأخذ برأيهم.

لأن كل من حققوا الرخاء والتنمية فعلوا ذلك بامتلاك السيادة الوطنية على الاقتصاد والمجتمع، اللذين بضمان استقرارهما تستقر السياسة.

غير ذلك. هناك قراصنة اقتصاد يطوفون حول ضفاف شط الاقتصاد المغربي، الذي يسلب منا قطرة قطرة.

ويبقى السؤال: من يحمي السيادة الوطنية قبل أن يسلب منا المستقبل بتوفير شروط القرصنة في الحاضر؟!