أحمد مدياني: ماكرون يزور إفريقيا!

أحمد مدياني
أحمد مدياني

"ما لا يُدرك كله لا يترك جُله". أعتقد أنه على أساس هذه القاعدة، تحركت الآلة الدبلوماسية المغربية، وغيرت من قواعد "الاشتباك السياسي الخارجي"، نصرة للقضايا الإستراتيجية للمملكة، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية، وذلك منذ قرار الملك محمد السادس، يوم 17 يوليوز 2016، إنهاء اختيار الكرسي الفارغ داخل أروقة الاتحاد الإفريقي، وإعادة توجيه دفة التأثير نحو الجنوب، من منطلق الشراكة والانتماء، وليس الوصاية.

اليوم، يحل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بالمغرب، ليدشن زيارة دولة استثنائية، سبقتها، ولأول مرة، خطوات من الجانب الفرنسي تؤكد حصول تحولات عميقة تهم موقع المملكة داخل دهاليز التفاوض؛ إذ انتقل قبل سنوات، من موقع رد الفعل إلى الفعل، وإن أوهم الخصوم والحلفاء، على حد سواء، أكثر من مرة، بأنه يقترف غير ذلك.

منذ إعلان موعد الزيارة التي حدد الملك تاريخها بدعوة منه، وليس كما حاول الإيليزي، في السابق، فرض قواعد تحديد الزمان على الأقل، تناسلت تحليلات كثيرة، أغلبها، وهذا من حقها، تضع الحدث وفق المحدد الكلاسيكي المجتر لما يربط المملكة بالجمهورية، وفق نفس قواعد حقبة الاستعمار وما أفرزته.

روج الإعلام الفرنسي لمضامين مكثفة ومركزة تقدم الزيارة على أنها "تدخل فقط في إطار لعبة مصالح اقتصادية تعرضها المملكة على الجمهورية، بغرض حصد مكاسب سياسية".

كما اقتنع البعض بأنه لاستئناف العلاقات بين المغرب وإسرائيل دور محوري في قبول ماكرون لزيارة بهذا الحجم والتأثير. رأي أغفل أن الاتفاق الثلاثي تم، يوم 23 دجنبر 2020، وذروة الأزمة بين الرباط وباريس جاءت بعد عامين من توقيعه.

بل أسقطت أنه من أعراف المخزن العلوي، ومهما بلغ من وهن، طيلة قرون حكمه للمغرب، بحدوده القديمة والجديدة، يمنع تحكم طائفة أو عشيرة أو قبيلة في رسم الباطن قبل الظاهر، لسياساته الداخلية والخارجية.

دولة المغرب لا تترك للآخرين سلطة اختيار حلفائها ولا تصنيف خصومها.

أعتقد، من هذه المحاولة في الفهم، أن المغرب فرض شروط هذه الزيارة من منطلق اختياره لقوة الانتماء إلى الجغرافية؛ هذه الأخيرة خسرت داخلها فرنسا أكثر من موقع، وحيث تفقد الجمهورية التأثير والنفوذ، بكل أشكاله وأنواعه في إفريقيا، حيث يربح المغرب الأصدقاء والحلفاء المفترضين مستقبلا.

حين أطلق الملك محمد السادس المبادرة الأطلسية التي ستمكن دول الساحل من نافذة على العالم عبر المحيط، تغيرت الكثير من موازين القوى، بمجرد الإعلان عن ذلك. أستحضر هنا مقالا لمجلة "جون أفريك" نشر، في شهر يونيو من العام الجاري، تحت عنوان: "المبادرة الأطلسية لمحمد السادس... حجر زاوية جديد للدبلوماسية المغربية؟".

وإن كانت المجلة، في تناولها للمبادرة، مارست هوايتها المفضلة، بدس السم في العسل، إلا أنها لم تنزع عن المبادرة قوة الطرح الاستباقي لربح معركة استقلال الأوطان والشعوب الإفريقية عن تعويض فاعل خارجي مسيطر بآخر، والقصد هنا، واقع التحولات التي أخرجت فرنسا ثم أدخلت الصين وروسيا.

كما قلت في السابق، قواعد "اشتباك المغرب الخارجية" تغيرت وفق قواعد جديدة تعتمد فيها المملكة على عوامل كثيرة؛ أهمها الاستثمار في استقرار ليس فقط إفريقيا، بل حتى أوروبا، عكس نهج الجارة الشرقية الجزائر. وهذا الاستقرار السياسي، والأمني، والاقتصادي، وأيضا الثقافي، يحتاجه العالم ككل، بالنظر إلى الاضطرابات التي أصبحت اليوم تؤثر، بشكل مباشر، على سهولة حركة الموارد وما ينتج منها بين قارات العالم.

دون إغفال قوة احتضان المغرب لأكبر مناورات عسكرية سنوية رفقة أمريكا بإفريقيا، وحفاظه، مع ذلك، على شراكاته المتقدمة جدا تجاه بكين وموسكو، ووقوفه بحياد إيجابي تجاه عدد من الملفات الإفريقية الإقليمية التي يساهم في حلها، دون محاولة نزع السيادة عن الدول المعنية بها.

ودون إسقاط اقتحام المغرب لقلاع كانت في السابق حصينة، حاضنة لأطروحة الانفصال ومعترفة به، ليس فقط في إفريقيا أو أوروبا، بل حول كل نقطة من العالم الذي أنهك من جراء حقن أطروحات تفتيت الدول والمجتمعات.

ماكرون لا يزور اليوم، فقط، المغرب، وهذه ليست زيارة دولة رئاسية، بل زيارة دولة فرنسا كلف بها الرئيس.

ولاية ماكرون الثانية تقترب من نهايتها، وقوى سياسية أخرى داخل الجمهورية تواصل ربح مواقع الصعود.

لذلك، يمكن القول إن ماكرون يزور إفريقيا وليس المغرب فقط!