العلاقات المغربية الفرنسية، مهما بلغت من توتر أو هدنة أو ازدهار، تبقى قائمة ومتحركة على أكثر من صعيد، خاصة تلك المرتبطة بالشقين الاقتصادي والثقافي. وهذا الأمر ليس باختيار، بل ضرورة أفرزتها تراكمات قرون وليس عقود فقط.
مساء أول أمس الاثنين، وقع في حضرة الملك محمد السادس، والرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، 22 اتفاقية بين المملكة والجمهورية تهم مختلف القطاعات الحيوية بين البلدين، امتدت لتشمل مجالات السيادة بين البلدين.
توقيع هذه الاتفاقيات سبقته كتابة صفحة جديدة، بقلمي الملك والرئيس، من تاريخ منطلقات الشراكة الإستراتيجية بين المغرب وفرنسا، أساسها فقرة مهمة جاءت في الإعلان المشترك لهذه الشراكة.
وجاء فيها:
"أكد رئيسا الدولتين أن الجهود المشتركة التي يبذلها البلدان على الصعيدين الثنائي والدولي ستظل قائمة على أساس المبادئ التالية: العلاقة بين دولة ودولة، والمساواة في السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وفي اختيارات السياسة الخارجية، واحترام الالتزامات المبرمة، والثقة، والشفافية، والتشاور المسبق، وتضامن ومسؤولية كل طرف تجاه الطرف الآخر".
ثمانية مبادئ تؤكد أن تحولات عميقة انتزعها المغرب تجاه حليفه التقليدي والتاريخي، لم يكن معمولا بها من قبل، ولا يمكن أن لا يقتنع بها غير الذين يبحثون عن مواصلة كسب الرزق والظروف عبر الاستثمار في وجود أزمة، ومواصلة تسويق أنهم ليسوا سوى ضحايا "دولة هزيلة".
هناك أمور كثيرة يمكن الاختلاف فيها مع الدولة، وانتقادها حين يتطلب الأمر ذلك، خاصة ما يهم أوضاعنا الداخلية.
لكن، لنقلها بصراحة وتجرد من مطامع الذات غير الظاهرة.
نحن أمام نهج دولة، كما قلت في مقال سابق، غيرت كثيرا من قواعد "الاشتباك السياسي الخارجي".
دولة تعلمت بسرعة من درس قريب يهم القضية الوطنية. ملف تعرف المملكة جيدا أنه لا يمكن التهاون في استمرار إطالة النزاع المفتعل بشأنه، بالنظر إلى تسارع مطامع زعزعة الاستقرار في أكثر من شبر حول العالم.
مساء يوم أمس، سألني أحد الأصدقاء الكبار: "ما هو رأيك في عدم استغلال المغرب لهذه الزيارة بإعلان فتح فرنسا لقنصلية بإحدى مدن الأقاليم الجنوبية؟".
أجبته: "الدرس الأمريكي صديقي!".
طلب الصديق الكبير أن أوضح أكثر.
أضفت: "حين أعلن الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الحالي، دونالد ترامب، اعتراف بلاده بسيادة المغرب على صحرائه، لم يكن للتغريدة على (تويتر) حينها أي أثر ملموس، باستثناء صورة السفير وهو يظهر خارطة المغرب كاملة بمقر السفارة، ووعد بافتتاح قنصلية في الداخلة. وفر الوعاء العقاري، ولم ينزل القرار السياسي".
تابعت: "أعتقد أننا أخطأنا عندما انسقنا وراء ربط الإعلان الرئاسي الأمريكي بلحظة قص شريط فتح القنصلية. وعوض أن يبقى النقاش بشأن الإعلان عند ما قبله وما بعده، وإن لم يحققه أهدافه كاملة، وقعنا في كماشة ما قبل افتتاح القنصلية الأمريكية؛ لأنه لم يأت ما بعدها. تمت محاصرة التحول في ذلك الركن الضيق ولم يغادره إلى اليوم".
ما يحتاجه المغرب انتزعه، حين أعلن ماكرون، تحت قبة البرلمان، بعظمة لسانه، أن "حاضر ومستقبل الصحراء تحت سيادة المغرب".
أعتقد أنه يمكن الاكتفاء، مرحليا، بتصريح وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، يوم أمس الثلاثاء، بالرباط، خلال لقائه بوزير الخارجية، ناصر بوريطة.
وجاء في التصريح: "فرنسا تعتزم تعزيز حضورها القنصلي والثقافي بالصحراء المغربية من أجل إحداث رابطة فرنسية... لقد أرفقنا القول بالفعل، ويشرفني أن أعلن لكم أنه تم تحيين خريطة المغرب، ونشرها على الموقع الإلكتروني لوزارة أوروبا والشؤون الخارجية".
قضية الصحراء المغربية، اليوم، بين درسين من محاسن التعلم منهما أنهما جاءا متقاربين، بالنظر إلى قيمة الزمن السياسي.
درس أمريكي وضعنا - أعتقد مكرهين - عند لحظة زمنية توقفت، بتوقف رفع علم الولايات المتحدة فوق بناية بالداخلة، حتى أصبح الجميع، بمن فيهم نحن، نقيم صدقه وفق تحقق هذا الشرط من عدمه.
ودرس فرنسي أعلن، بشكل نهائي وقاطع، حق المملكة المغربية التاريخي والمشروع بالسيادة على صحرائه، وفق أسس الشراكة الاستراتيجية الجديدة التي وقعها قائدي البلدين.