أستغرب من أين يستمد البعض جرأة إعطاء الدروس لشعب يرزح تحت الاحتلال والتهجير والإبادة، منذ عقود، وليس بعد 7 أكتوبر 2023 فقط، كما يحاولون إقناعنا بذلك.
وضع مأساة شعب لا يخلو عقد من ارتكاب المجازر في حق رضعه وأطفاله ونسائه، داخل نسق سلم التنقيط.
تحميل مسؤولية سنوات من إبادة البشر والشجر والحجر لشعب هو صاحب الأرض والحق، سلبت منه الأولى ليتم تكديسه داخل رقع جغرافية متفرقة لا تشبه السجن، بل هي كذلك، وحرم من الثاني، ليتحول كل بيت وخيمة إلى زنزانة، تحت سقف معتقل حدوده الوحيدة المفتوحة تجاه السماء.
مفاهيم الموت والجوع والاعتقال عند الفلسيطني تختلف عما يراه أي إنسان آخر حول العالم. يعيشون هناك، يوميا، "الموت المؤجل". ضمان الأكل والشرب عنده استثناء. والحرية ليتمتع بها يجب أن تنتزع؛ لأنها لا ولن تعطى.
وكل ما سبق، يعيشه الفلسطيني الغزاوي أضعافا مضاعفة، مقارنة بأشقائه في الضفة.
بعد إعلان توقيع اتفاق "وقف إطلاق النار" بغزة، أو لنقل كما يجب الوصف الحقيقي، وقف الإبادة في القطاع، خرج علينا، وهم مكرهون، من يحاولون جاهدين، دائما، تقييم ما وقع طيلة 15 شهرا، من زاويتهم الضيقة؛ حيث يشعر المحتل بأنه حقق بعضا من أهداف "القوة غير الناعمة".
أصوات وأقلام تزور الوقائع التي تفرجنا ونتفرج عليها جميعا. ورغم أننا من زمرة الشهود، يكذبون علينا.
تخيل أن أضعك داخل صندوق جغرافي، محرم عليك تجاوز حدوده الإسمنتية. حرية الحركة داخله بمقدار، قوت يومك بمقدار، صحتك بمقدار، تعليمك بمقدار، ولو كان الهواء غير مشترك، لكان بدوره بمقدار. وأنا دون غيري من يحدد لك متى يرتفع ومتى ينخفض.
هل سوف ترضى بالحياة بمقدار؟!
أكيد، سوف تتغير عندك كل المفاهيم. سيصبح همك الأول والأخير هو التحرر من المقدار الذي وضعته لك؛ لأنك مسلوب الحرية في كل ما يجعل من وجودك ضروريا لك قبل غيرك.
في فلسطين، كل جيل، وقبل أن يشتد عوده، يمل من المقدار والعيش داخل الصندوق. لذلك، واهم من يعتقد أن 7 أكتوبر كانت الأولى وستكون الأخيرة.
في فلسطين، هناك آلاف سيعيشون ولهم دين يجب تسديده لمن ضحوا بأرواحهم لأجل الأرض وإنهاء الاحتلال، لأجل المقدس المشترك عندهم. الذين لا تهمهم الحسابات السياسية والاتفاقات التي تنتجها الغرف المكيفة للفنادق والمنتجعات.
ولابد من التأكيد على فاصل مهم من فواصل واحدة من القضايا التي يضعها المغرب في رتبة قضيته الوطنية، وهو أنه قبل 7 أكتوبر كان هناك مصير اعتبره المخططون له محتوما.
جعل مصير قضية الشعب الفلسطيني أشبه بمصير شعب الهنود الحمر بالأمريكيتين. حيث تحولت فصول تاريخ الإبادة لمجرد فلكلور يتم الإحتفاء به من حين إلى آخر حسب الحاجة إليه.
لأجل ذلك وغيره، في فلسطين، لا يهمهم، اليوم، الإجابة عن سؤال: هل انتصرت غزة؟
بالقدر الذي يهمهم ضمان الإجابة عن سؤال: هل مازال الشعب يملك من يقاوم من أجل تحرره؟
والأكيد أن الإجابة هنا هي: "نعم"...
"نعم" لأن شاعر القضية الراحل محمود درويش لخص الكل والجزء حين قال:
"نحن الضحية التي جربت فيها كل أنواع القتل.. حتى أحدث الأسلحة! لكننا الأعجوبة التي لا تموت ولا تستطيع أن تموت".