شهر نونبر من سنة 2012 توصلت بدعوة لحضور مهرجان "تركالت" الذي ينظم بالصحراء الساحرة لمنطقة محاميد الغزلان. حينها طلب مني المنظمون أن أضبط تاريخ وموعد السفر على ساعة أحد الرجال العارفين بالفلاحة والتربة والمناخ وكل ما هو مرتبط بالزرع والحرث وتثمين أبسط ما قد تجده في الطبيعة.
حين وصل الرجل عند مكان مقابل لسينما "الريف" بالدار البيضاء، كانت الساعة تشير للسادسة مساء، اتصل بي لأنزل من الطابق الثامن لعمارة "الحبوس". وبمجرد ما لمحته وقبل أي مقدمات للتعارف، رددت مع نفسي: "واااو ستكون رحلة مملة!"
لكنها لم تكن كذلك. تحديدا عندما بدأ الحديث بيننا يغوص في تخصصه، بعدما وصلنا منعرجات "تيشكا". مهندس أشرف لسنوات على إنشاء محميات طبيعية في مختلف مناطق المغرب ويعرف كل شبر من خصوصيات تراب هذا الوطن.
الرجل وجهت له الدعوة من طرف المنظمين، لتقديم عرض حول أهمية استمرار زراعة الأعشاب الطبية والعطرية والأشجار المقاومة للتصحر في المناطق التي تعرف شح التساقطات المطرية وقلة الموارد المائية الجوفية.
واتضح من خلال تبادل الحديث معه، أنه مدافع شرس عن ترك الأرض كما نحتتها الطبيعة بفعل خصوصيتها الجغرافية والمناخية، ورافض لكل السياسات الفلاحية والزراعية والمائية التي جاء بها "مخطط المغرب الأخضر" عام 2008 وما بعده.
عند وصولنا إلى مدينة زاكورة، نزلنا للاستراحة بمنطقة على ضفاف وادي "درعة"، قال ونحن نلتقط صورا تذكارية بكاميرا رقمية جلبها معه: "يخططون للخراب في هذه المنطقة. عطاو لغرباء التراكتورات ورخصوا ليهم يقلبوا أرض، لا يجب أن تحرث أبدا. جايبين هنا أحد أعداء المياه الجوفية".
كان الرجل يعرف جيدا ما ستؤول إليه مصائر ما فوق الأرض وما تحتها، وعلى يقين بأن استمرار توفير مياه الشرب أهم من إطلاق مشاريع تعود على الساكنة بالفتات.
وأضاف: "عرفت أولدي هاذ مخطط المغرب الأخضر، راه ما خضر ما والو، غادي يستافدو منو غير صحاب الكروش الكبار. واش كاين شي عاقل يرخص بزراعة الدلاح والبتيخ في زاكورة وشيشاوة. واش هذ الناس ما فاهمينش أنه ما ينبت هنا بدون صرف الفلوس بزاف يمكن تحويله لثروة عوض تدميرها".
حينها، وعند حديثه عن قرب أزمة العطش في زاكورة والنواحي، تساءلت كيف يمكن توقع كل هذا دون اطلاع على ما هو قادم بشأن المناخ، ليظهر بعد سنوات أن الرجل كان يعرف جيدا ما يقول، ولم يكن يلعن كل مظاهر الزرع التي تم استوطانها بالجنوب الشرقي مجانا.
صدق الرجل حين اندعلت "ثورة العطش" بزاكورة، صيف عام 2018، أي ست سنوات على ما قاله.
تحدث الرجل أيضا عن خطر قادم للمغرب، وبفضله سمعت لأول مرة اسم "الحشرة القرمزية"، قبل أن يعلن رسميا عن انتشارها في المغرب من طرف "أونسا" أواخر العام 2014. كما شرح ما يهدد المنتجات الفلاحية من إدخال تعديلات جينية عليها واستعمال مبيدات ووسائل زراعة جديدة لا تلائم الخصوصية المغربية في الزراعة.
ترافع طيلة ساعات السفر ضد تمدد زراعة "لافوكا" في المغرب، وذلك ما تؤكده تقارير علمية اليوم عن أسباب استنزاف الفرشة المائية للمغاربة، آخرها ما جاء في سؤال كتابي وجهته البرلمانية عن فدرالية اليسار فاطمة التماني لوزير الداخلية عبد الوافي لفتيت، وتحدثت عن أن "تقارير علمية تؤكد أن كل كيلوغرام من الفاكهة المذكورة يستنزف أكثر من ألف لتر من الماء. وبالتالي، فإن خمسة وأربعين ألف طن من الأفوكادو استنزفت أكثر من أربعين مليار لتر من الماء، كان سيستفيد منها المغاربة في احتياجاتهم المعيشية".
وبالحديث عن كارثة استمرار زحف زراعة فاكهة لافوكا في المغرب، لأنها تعد من البدع الفلاحية التي جاء بها "مخطط المغرب الأخضر"، يجب هنا العودة لما جاء على لسان وزير الفلاحة الحالي محمد الصديقي الذي كان من قبل كاتبا عاما عند رئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش ومشرفا مباشرا على تنزيل مشاريعه في القطاع.
قال يوم الثلاثاء 1 نونبر 2022 تحت قبة مجلس المستشارين وهو يدافع عن زراعة الدلاح والأفوكا: "من ربط هاتين الزراعتين بشعار (تصدير الماء). أنا لا أعرف صاحب هذا الشعار؟"
وتابع الوزير: "الأفوكادو لا تشغل سوى 9 آلاف هكتار من المساحات الفلاحية بالمغرب، بينما لا يشغل البطيخ الأحمر سوى 19 ألف هكتار واش هادشي هو لي كيضيع لينا الماء؟ راه كاين واحد الغلط".
الجواب عن سؤال الوزير "العارف" بقطاع الفلاحة، يوجد قبل التقارير العلمية وما يجود به كل غيور عن مستقبل هذا البلد، عند وزارة الداخلية وأطرها المجربة.
ومن بين هؤلاء محمد مهيدية والي جهة طنجة - تطوان - الحسيمة، الذي كشف خلال شهر شتنبر من العام 2022، خلال اجتماع مع المنتخبين بالجهة، أنه "توجد أزمة خانقة للماء، وهذا معروف دون العودة إلى الأرقام، وعلينا اتخاذ تدابير استعجالية، وتم إصدار مقرر بين وزير الفلاحة والوزير المنتدب المكلف بالميزانية، يجعل زراعة غير مؤهلة للدعم، (بيناتنا ما بقاتش) الإعانة المالية الخاصة بلافوكا والحوامض والدلاح".
وبناء على نفس المقرر الذي وقعه وزير الفلاحة المدافع عن لافوكا والدلاح، أصدر عدد من الولاة والعمال مذكرات تمنع زراعة الفاكهتين في أكثر من منطقة بالمملكة ووقف دعم الفلاحين الذين ينتجونها.
غريب! شهر شتنبر من العام 2022 يوقع وزير الفلاحة رفقة وزير الداخلية مقررا يهم وقف دعم زراعة لافوكا والدلاح والحوامض بسبب الأزمة المائية، وشهر نونبر من نفس العام يخرج في الغرفة الثانية ليدافع عن زراعتهما ويبعد التهمة عن أنهما يستنزفان مستقبل الحاجيات المائية للمغاربة.
كيف يمكن أن توقع في أقل من شهرين على مقرر حكومي هو أصل الشعار الذي تساءلت عن مصدره؟!
ما ورد هنا أمثلة بسيطة عن آلاف الأمثلة الأخرى بخصوص ما جناه المغاربة من "مخطط المغرب الأخضر"، ولا يحتاج التقييم للاستمرار في سرد الأرقام والأمثلة، يكفيك اليوم النزول لأي سوق للوقوف على لهيب أسعار الخضر والفواكه، فضلا عن توالي الأزمات الموسمية في أصناف من الخضر والفواكه حتى يفوق سعرها ما كانت عليه قبل سنوات التطبيل ل"مخطط أخنوش الأخضر"، دون القفز على تشديد المراقبة على الصادرات الفلاحية المغربية نحو أوروبا، ورفض دخول الأطنان منها طيلة السنوات الماضية بسبب احتوائها على بقايا مبيدات يبدو أن المغاربة يتغذون عليها يوميا لأنهم يوجدون خلف تقنيات رصدها.
قبل أيام، جالست أحد المسؤولين السابقين الكبار في الدولة، ومن بين ما دار بيننا، الحديث عن "مخطط المغرب الأخضر".
قال لي حرفيا: "ما كينش شي حكومة داز فيها أخنوش عندها أرقام مضبوطة وتقييم حقيقي للمخطط. في المجالس الحكومية وغيرها كان يكره أنك تسولو عليه... كان يتعرق حين يتجه النقاش نحو التقييم والأسئلة عن تحقيق أهدافه".
وأضاف: "نتائج المخطط يعرفها هو وحده ومن استفاد من تنزيلها داخل القطاع. يعرفها بسطاء المغاربة لأنهم يعيشون على تبعاته يوميا. وطبعا يعرفها من استفادوا منه وراكموا الثروات بفضله".
حديث المسؤول عاد بي للعام 2018، حين راود وزير الفلاحة السابق ورئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش حلم عرض تقرير العشر سنوات على إطلاق "مخطط المغرب الأخضر" بين يدي الملك محمد السادس قبل انطلاقة المعرض الدولي للفلاحة بمكناس، لكن... لم يترجم حلمه إلى الواقع!