أوريد: السلطة في الثقافة العربية ليست عقدا اجتماعيا بل غنيمة 2/1

تيل كيل عربي

من ناطق رسمي باسم القصر الملكي ومؤرخ للمملكة إلى روائي وكاتب غزير الإنتاج يشغل قرائه بما يظهر ويتوارى خلف كلمات تطرق باب القصر حينا وقد تنفذ إلى ما خلف أسواره وقد لا تنفذ.

خرج من القصر ولم "يخرج" منه. يبحث القارئ  دائما عن الرسائل المباشرة والمشفرة في كتاباته، فمسار الرجل يكتبه وصار مادة تفكر له  كما يقول هو نفسه  في حوارنا معه حول عمله الروائي الأخير، "رباط المتنبي". الرباط ليست اختيارا جزافيا، فهي مربط السلطة المركزية وشخصية المتنبي ليست جزافية كذلك. أوريد عاشق لشعر المتنبي وصاحبه في لحظات عسيرة من مساره.  وفي الرواية يتماهى الكاتب والشاعر في  الطموح والخيبة وعزة النفس.

رواية لا يخفى فيها أثر ندوب الإبعاد ، ومساءلة العقل العربي و مالكي السلطة. ويحتار القارئ هل الحديث عن رباط تجافي متنبيها، عن "رباط المتنبي" أم عن "متنبي الرباط"؟

في هذا الحوار، نقترب من أوريد الإنسان، طموحه في السلطة، خيبته، أمله الباقي وعلاقته بالكتابة وقصة الحب المتوارية.

حاورته سعيدة الكامل

نبدأ بالأثر الذي خلفته روايتك الأخيرة "رباط المتنبي"، من قرأ الرواية يشفق على المتنبي أنه حل بالرباط ...

 أولا كلمة "الرباط "هي كلمة حمالة أوجه، فالرباط قد يكون عاصمة المغرب وقد يكون مكانا معينا يجتمع فيه أناس، وقد يكون الرباطُ العلاقة. الرواية مساءلة للثقافة العربية من خلال زمنين؛ زمن المتنبي والزمن الحاضر من أجل سبر غورالثقافة العربية. هذه هي الغاية التي كانت وراء الكتاب. فحلول المتنبي في هذا العصر الذي يشبه عصر المتنبي، على أساس أن العالم العربي في عصر المتنبي كان يتجاذبه البويهيون (الفرس) والسلاجقة (الأتراك)، وأن حلم المتنبي بحكم عربي مع سيف الدولة باء بالفشل. هناك تشابه بين الزمن الذي عاشه المتنبي والزمن الذي نعيشه.

في الرواية أمارات تدل على أن الحديث عن الرباط العاصمة، أمكنة بالرباط وبالقرب منها، الحديث عن مستشفى الرازي.. عن بوسيجور.. الشعور بالمحنة التي أصابت المتنبي في الرباط، ألكونه حل في زمان غير زمانه أم أن الرباط تجافي متنبيها؟

هي محاولة قراءة المتنبي من منظور مثقف مغربي. تم توظيف المتنبي من أجل قراءة الثقافة العربية والوضع القائم، على اعتبار أنه هو المدخل للثقافة العربية. اختيار المتنبي لم يكن إلا ذريعة لسبر أغوار الثقافة العربية وأدوائها.

القارئ للرواية يشعر بنوع من التماهي  الذي لا يخلو من نقد وصراع بين شخصية الكاتب والمتنبي؟

المتنبي هو رمز للثقافة العربية. كان موضع تجاذب في حياته كما في مماته بين أولئك الذين يهيمون في حبه وأولئك الذين يغرقون في التجني عليه. لا يمكن أن ننكر أنه هو الوجه الساطع للثقافة العربية. بالنسبة إلي، حاولت أن أجعل منه قارئ واقع على أساس أنه وقف على كثير من أدواء الذهنية العربية واستشهدت بأبيات كثيرة من شعره في هذا المنحى يشخص فيه حال العرب.  ليس هناك ذهن نفذ لأدواء الثقافة العربية وللذهنية العربية بنفس القوة التي نفذ بها المتنبي.

ليس هناك ذهن نفذ لأدواء الثقافة العربية وللذهنية العربية بنفس القوة التي نفذ بها المتنبي.

وكأنك تقول إن الثقافة العربية مازالت تعاني من  نفس الأعطاب؟

 يسأل الراوي المتنبي وهما ينظران من شرفة بالرباط: "ما الذي تغير خلال عشرة قرون؟"؛ أي من وفاته، ويجيب الراوي: لا شيء.  تغير الشكل لا المضمون. نعم أصبحت لنا وسائل متطورة، لكن البنية لم تتغير. لذلك حاولت في عملي أن أظهر كيف وضع المتنبي يده على ما تسمينه أعطاب الذهنية العربية، وسعى لفترة  أن ينعتق عن الثقافة العربية في قصيدة شهيرة، يستحضر فيها التراث اليوناني، وكيف أنه جالس أرسطو طاليس والإسكندر. المتنبي كان يشعر بمعوقات الثقافة العربية وكان يريد أن ينعتق من تلك المعوقات. الهدف هو وضع  الثقافة العربية على المجهر. ولم يكن بنيتي التحامل.

هل يمكن أن نقول إن الرواية تضع إرهاصات مشروع عمل أو مشروع فكري لنقد العقل الغربي مادام أن نقد العقل العربي هو مشروع بدأ من قبل ومازال نقاشه مستمرا؟

 ليس هناك نهاية لعملية النقد. النقد هو عملية استعادة. ولذلك كل الأعمال التي قام بها بعض المثقفين لا ينبغي أن يُنظر لها وكأنها بداية ونهاية. على كل جيل أن يعيد قراءة التراث وهذه عملية أساسية لاستعادته أو إن شئت امتلاكه، كما يقول غوته في "فوست"،"ما ترثه عن أبيك اكتسبه لكي تمتلكه". من جهة ثانية، لا يمكن أن نقف في منتصف الطريق. هناك مسؤولية داخلية للأعطاب القائمة، ولكن هناك كذلك أسبابا خارجية، أو سياقا. نحن في وضع  ينبغي أن نحسن فيه قراءة التراث قراءة موضوعية، وينبغي كذلك أن نحسن قراءة الغرب، وألا نقع في نظرته الاستشراقية والعجائبية، وإلا سننتهي في نهاية المطاف إلى التقليد المزدوج وهذا التقليد المزدوج هو ما يشكل عائقا لنا.

هناك طرح قوي للهوية وتشعرك الرواية بأن هناك شرخا هوياتيا. هل الرواية تعبير عما يعتمل داخل الإنسان المغربي؟ وهل مازال الحديث عن الهوية في زمن كزمننا مهما أم صار متجاوزا؟

 ينبغي أن نتجاوز خطابات الهوية، وبخاصة من يضعها تحت الإقامة الجبرية. لكن لكي نتجاوز هذه الخطابات يجب أن نفهم مبناها. لماذا يبرز خطاب هوية في مجتمع ما؟  خطاب الهوية هو حالة عرضية، ناجمة عن عدم الاعتراف لشخص أو جماعة أو مكون ما. وحينما يشعر هذا المكون أنه غير معترف به، وعدم الاعتراف يتخذ أشكالا شتى، إما بطريقة فجة وفظة، أو من خلال إجراء  تراتبية أو من خلال ممارسات، منها الازدراء والاحتقار، بل التسامح، لأن التسامح ليس اعترافا، لأنه شكل مبطن للتمايز. المجتمعات، كما الأفراد، تحتاج للاعتراف، وهو مرتبط بقيمة أساسية وهي الكرامة.  عرضت لقضية الهوية في "رباط المتنبي" ولكن من أجل تجاوزها.

المجتمعات، كما الأفراد، تحتاج للاعتراف، وهو مرتبط بقيمة أساسية وهي الكرامة

الرواية تقربنا كثيرا من شخصية الكاتب، وذكرت أن الحديث عن  الهوية يطفو حينما يكون هناك احتقار، هل حدث أن كان جزء من هويتك -الأمازيغة- سبب معاناة؟

في اعتقادي، الأهم هو في مسار الإنسان أن ينتقل  من الحدث إلى الفكرة. الأفكار لا تنبت من فراغ ولكن من واقع، ولكنه ينبغي صوغ الواقع في فكر أو أفكار. أفكاري ليست منفصلة عن واقعي ومساري. لا يمكن أن أتوسع في الأحداث التي صاغت رؤاي. لكني وقفت على عدم الاعتراف، وما قد يخلفه ذلك مما يسميه البعض  بـ"ندوب الاحتقار" .

وهو أمر عرض له المتنبي في أبيات شهيرة:

ومراد النفوس أصغر من أن     نتعادى وأن نتفانى

غير أن الفتى يلاقي المنا        يا كالحات ولا يلاق الهوانا

نقف في الرواية على صفحات تتحول لتحليل لواقعنا السياسي الحالي خصوصا حينما تقيم مقارنة بين النظام الملكي والجمهوري والديمقراطية، وكأنك تنبه السلطة أنه لا يمكن أن يكون الخوف والطمع والدافع الأمني ركيزة للاستقرار؟

في فصل، حاولت أن أوظف فيه اسبينوزا بالأساس ولم يكن اختيارا جزافيا، بل على اعتبار أنه الفيلسوف الذي قطع مع القراءة الأسطورية للتراث من أجل استعادة كنهه. وبتعبير آخر، كنت أحاول أن أطرح السؤال: هل أفرزنا اسبينوزا معاصرا؟  ليس بالضرورة في شخص، ولكن في اتجاه.

قد يقال ربما ابن رشد قد يكون اسبينوزا سابقا لعصره، لكن ابن رشد ابن عصره ولا يمكن أن نطلب منه حل قضايانا. وفي خضم اهتمامي باسبينوزا وقفت على قضايا معينة منها كلمة République وقلت إن كلمة جمهوري لا تفي لترجمة Républicain، الجمهورية تحيل إلى الجماهير في حين أن République  هي الشيء العام،  وهي ترجمة قام بها شيشرون  لمصطلح آخر لأرسطو وهو بوليسيا، والمَلكية ليست هي Monarchie   بل هي الحكم الأحادي لذلك قد لا يتفق معي البعض حينما أقول إنه لإدراك مدلول بعض المفاهيم ينبغي أن نفكر فيها من خلال القوالب الغربية. أخشى ألا تفيدنا القوالب التراثية لإدراك مفاهيم . هو ذا  لذي قلته،  لكي ندرك مدلول ببعض المفاهيم لا بد أن  نلم بها في القوالب الغربية، وإلا بقينا أسرى الشكل عوض الجوهر. فالديمقراطية تختزل في عمليات انتخابية، وليس في روحها، القائمة على سيادة الشعب.

لا، أنت لا تقف فقط عند حدود توضيح المفاهيم.. هناك تنبيه للسلطة على أن الحكم الأحادي الذي يكون دافعه الخوف والطمع لا يمكن أن يبقى مستقرا؟

طبعا، هذا قلته. قلت ذلك في متن العمل، مستشهدا  باسبينوزا وهو كذلك إسقاط لواقع العالم العربي.  لأنه في نهاية المطاف السلطة التي تقوم على الخوف أو على المصلحة لا يمكن أن تستمر. لابد من عقد اجتماعي.  العقد الاجتماعي هو الأساس في بينة السلطة الحديثة. الأنظمة التي قامت على الخوف انهارت كالاتحاد السوفياتي، الذي كان يقوم على آلة رهيبة كالمخابرات، كما  أنظمة أخرى مشابهة. العقد الاجتماعي هو الأساس في العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وفي  الثقافة العربية السلطة ليست عقدا اجتماعيا بل غنيمة. أيا كانت السلطة، وسواء مورست من قبل شخص أو فئة، يتم التصرف فيها كغنيمة وهذا من أدواء الثقافة العربية.

السلطة التي تقوم على الخوف أو على المصلحة لا يمكن أن تستمر. لابد من عقد اجتماعي.  لعقد الاجتماعي هو الأساس في بنية السلطة الحديثة

هذا تنبيه ما؟ نصح مثقف؟

كمثقف أتبنى فكرة أساسية وهي الحق في الخطأ، أنا لست صاحب قرار، يترتب عنه انعكاسات على مصائر مجتمعات. أنا أتعامل مع أفكار من خلال قراءة واقع ومن خلال استدعاء تجارب أخرى من حضارات وثقافات مختلفة. والغرب مرجع حاضر بقوة في سعيي لقراءة الواقع. هناك احتقان في العالم العربي،  والمثقف من واجبه أن يقوم بدوره النقدي وإلا سيكون ببغاء يردد صدى المجتمع أو يردد صدى أفكار الغير.

في الصفحة 52 و53 من الرواية، يستوقفنا سؤال يظهر وكأنه يعبر عن الأرق الذي يمكن أن يصيب المثقف، "لماذا حل المتنبي عندي؟" كأن المتحدث كان في راحة من أمره وفجأة وجد نفسه تنغص عليه أسئلة تشغل بال المثقف، ويتلو ذلك بوح قوي بندوب مرحلة طبعت مسار الكاتب، "كنت أعيش بواشنطن.. وأدخلت المغرب لأني كنت متهما بالتآمر على الدولة.." وكـأن هناك "عقدة الإبعاد"، إذا سمحت بتوظيف هذا التعبير،  كما لو أنك تحن للسلطة؟

لا أستطيع أن أجيب على هذا السؤال. (بعد صمت وجيز) الإنسان كما يقول سارتر، في مسار. كنت في إطار بنية وخضعت لالتزاماتها وضوابطها. أجهز على مساري بناء على  أراجيف. هذا يدخل في إطار الحياة الشخصية، نعم أثر في رؤيتي للأشياء.  الآن نحن نتحدث عن عمل روائي ولو أن هناك تداخلا بين الكاتب والراوي، وهو أسلوب يعتمده بعض الروائيين.  في تلك الفترة التي تم إبعادي من واشنطن بناء على أراجيف ووشايات، قرأت ديوان المتنبي. حللت بمدينة وجدة وهو أمر أشرت إليه  في الرواية وأخذت معي ديوان المتنبي. المسارات تتحكم في الأفراد. هل كنت أؤمن بالمنصب لما كنت في خضم الإدارة أو المسؤولية؟ طبعا كنت أومن بالمنصب وما يفرضه المنصب وكان يحدوني طموح. هذا واقع. سأكون كاذبا إذا قلت إني كنت عازفا عن منصب ووضع. لا، كنت أؤمن بمسار إداري وسياسي. حينما انتهى كل ذلك بالشكل الذي تم، تحولت  التجربة إلى مادة للتفكر.  أفكر في واقع متطور. أسعى أن أنتقل من الذكرى، وهي مهمة بالنسبة للجماعات، لأنها تشد لحمتها، إلى الفكرة، لأنها ما يستحث الهمم.  الأفراد  كما الجماعات لكي يبرأوا من "ندوب الاحتقار" لا ينبغي أن يبقوا حبيسي الذكرى فقط،  ينبغي أن ينتقلوا لمستوى الفكر ، أن يتجاوزوا الحدث ويستخلصوا القواعد الناظمة له ، لأن الحدث يموت ولكن يترك وراءه أُثرا. أهمية المثقف أن يستخلص الفكرة الثاوية وراء الحدث.

 في  الثقافة العربية السلطة ليست عقدا اجتماعيا بل غنيمة. أيا كانت السلطة، وسواء مورست من قبل شخص أو فئة، يتم التصرف فيها كغنيمة وهذا من أدواء الثقافة العربية.

هل يمكن أن نعتبر الرواية أو جزءا من كتاباتك هو علاج من أثر صدمة، وهو أمر يفيد الكاتب والقارئ، هل يمكن أن نعتبرها  une thérapie من ندوب مرحلة ما؟

 ممكن. هناك أعمال، مثل "سيرة حمار" مثلا، كتبتها في ظروف نفسية صعبة. "المتنبي" رواية  أتعبتني. لا أنكر أن هناك جوانب ذاتية في كتابة هذا العمل.