قراءة ثانية
لنعد إلى "الأشجار تمشي في الإسكندرية" كي نقف عند العنوان وهو مقتطف من أحد الحوارات التي وردت في العمل الأدبي، ويعود تحديدا إلى قصة زرقاء اليمامة التي كانت ترى ما وراء الآفاق، فتنذر قومها بقرب العدو، والذي ابتدع حيلة الدخول في الأشجار ثم الاقتراب شيئا فشيئا، ولما أخبرتهم بأن الأشجار تمشي سخر منها قومها ورموها بالعته. لكنهم تبيَّنوا صحة قولها بعد فوات الأوان. ماذا يعني ذلك؟ حينما تمشي الأشجار فهذا يعني بداية النهاية، وحينما يكشف العاقل قبل الجميع بأن الخطر قادم وإن كانوا في حالة الدعة والسكون، فإنه يتحول إلى حكاية يتناذر بها الناس وينقلها القاصي للداني.
حينما نقرأ تفاصيل رواية الأسواني على لسان شخصياتها، سندرك معه أن الإسكندرية تسير نحو الاندحار المطلق. والحال أنها لم تكن مجرد مدينة في عيون قاطنيها، ولقد كان الأسواني ذكيا حينما اختار جنسيات أجنبية لأبطالها بين ما هو إيطالي وفرنسي ويوناني. هؤلاء الأبطال يرون في أنفسهم مصريين بالانتماء، يعتقدون أن الإسكندرية نقطة يبدأ منها العالم وينتهي إليها. لا يتصورون أنفسهم بمبعد وبمنأى عنها، رغم أن من ولدوا بها درسوا خارجها في لندن أو باريس... أما أبطال الكوكاس المصريون فإنه رغم انتماءهم الطبقي الميسور، إلا أنهم لم ولن يستسيغوا الهروب منها بالرغم من التضييق الذي بدأوا يلاحظونه بعيد الثورة بقليل.
أصبحت جلسات أعضاء الكوكاس تدور في شكلها العام حول ما يقع بالإسكندرية بعد ثورة الضباط، ولكم هو باد للعيان أن علاء الأسواني جعل من شخصياته لسان حال ما وقع وما يقع، هو تناقض بيِّنٌ نستشفه من خلال ما يعدنا به التغيير من جهة، وما يمكن أن تمنحه لنا الثورات من استبداد وقتل مطلق للرأي الآخر، وفي هذا العمل يعيد الأسواني هذه الصفة اللصيقة لكل الثورات، أما إذا نظرنا إلى هذا الشأن بعين فلسفية، فسنقول أن أصل الثورة ناتج عن تغيير نظام من أجل آخر، ولما ستُستتب للنظام الجديد مآربه، فإنه يسقط ضحية لمرض المؤامرة، لم لا وقد تمكن من أن يوجد حينما نجحت مؤامرته؟ وهكذا فإنه يفكر بأن ما سرى على النظام السابق يمكن أن يسري عليه كذلك. ومن ثمة ومن أجل وضح حد لكل هاته الاحتمالات، فإن أول وأهم رد فعل يمكن أن يقوم به هو تتبع المتمردين الذين يعملون في الخفاء، وقد يسقط أغلبهم ضحية للتسرع أو وضع الجميع في خانة واحدة، فيحدث أن يستباح الظلم وقد كان من أسباب الثورة التخلص من أشكال الظلم التي لحقت بالناس... ولقد وظف علاء الأسواني شخصية جليل القوصي للقيام بذلك، لقد كانت حقا شخصية مخلصة للثورة، لكنها أعادت النظر فيما قامت به حينما تحول عملها النبيل ـ على حسب معتقدها ـ إلى سلاح يظلم هذا وذاك دون أن يرف للنظام أي جفن. وهو ما تترجمه عبارة باحت بها إحدى الشخصيات العابرة: "لازم نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، الاعتقالات والتعذيب جرائم ضد الإنسانية. يا أخي تصور أن عندك شركة أو ورثت أرض عن أسرتك وتصحى الصبح تلاقي عبد الناصر استولى عليها."
يمثل جليل القوصي في هذا السياق تناقض ثورة الضباط: جهاز مخابرات يقف عند كل كبيرة وصغيرة.. عيون وجواسيس منتشرة في كل مكان تحاول جس نبض الشعب المصري، وأي شخص أبدى رفضا أو اختلافا أو حتى عبر عن رأيه نحو طبيعة نظام عبد الناصر سيجد نفسه لا محالة بين أقبية السجن. باسم ماذا إذن؟ باسم الزعيم الذي لا يمكن أن يخطئ ولا يمكن لقراراته أن تُناقش مهما بدت للجميع جائرة، لأن المبدأ فيها تحقيق المساواة بين الجميع!
لما صور لنا علاء الأسواني مدينة الإسكندرية ـ وهي للإشارة لا تمثل المدينة في حد ذاتها، وإنما تمثل مصر بصفة عامة ـ خلال اندلاع ثورة جمال عبد الناصر، سيعود بنا إلى جلسات أعضاء الكوكاس التي ستصيبها أزمة كبيرة من خلال الإطاحة لكل فرد على حدة. لا تمثل هذه المجموعة أفرادا من الأصدقاء يجتمعون في البار فقط، بل إنها تمثل طبقة من الشعب المصري التي لم تستفد من شعارات الثورة، بل إن هذه الأخيرة أتت بنتائج عكسية بالنسبة إليها. وهكذا ستتم مساومة بعض أعضاءها الذين رفضوا في البداية وضع يدهم مع النظام، إلا أن هذا الأخير حول خطاب الوداعة إلى وعيد، وباسم ماذا؟ باسم تهديد أمن الدولة ورفض شروط الثورة... أي باسم القانون الذي يتمدد ويتقلص وفق إرادة من بيدهم الأمر، وسيبدو للقارئ وضوح ذلك عندما سيتبين أعضاء الكوكاس أن مجموع نقاشهم قد كان مراقبا سلفا من طرف المخابرات التي كانت تتنصت عليهم وتعرف كل كبيرة وصغيرة عنهم، بل إن عيونها تمتد إلى حياتهم الشخصية وداخل غرف نومهم.. سينصاع أعضاء الكوكاس إلى ابتزازات الاستعلامات العامة، وقد تحول رفضهم إلى المساومة و قبولالشروط الموضوعة عن فيض خاطر، بعدما تم تخييرهم بتلفيق التهم الموجهة إليهم أو التعاون مع النظام. سينتهي بعد ذلك أمرهم: شانتال ستصدم في حبيبها سليم ـ وهو للإشارة ضابط مهم في النظام الحاكم ـ إذ بعد أن ارتمت في أحضانه وأحبته كأنها لم تحب أحدا غيره سينقلب عنها في أول اختباروستنتهي.. كارلو ستتم مساومته بضرورة الإيقاع بسيدة أجنبية بدافع الانتقام من زوجها الديبلوماسي الكبير، إلا أنه سيتحايل ثم سيُنكشف أمره وسينتهي. توني كازان سيتم الاستيلاء على مصنعه الذي بناه بعرق جبينه، نهاية المصنع تعني نهاية وجوده لمدى الارتباط بينهما فينتهي. جليل القوصي سيعيد النظر في ولاءه للنظام حينما سيكون سببا في زج الأبرياء داخل أقبية السجن وسينتهي بدوره إلى جانب شخصيات عدة...
مشي الأشجار يعني اقتراب العدو، واقتراب العدو أّمّارة على نهاية توشك أن تقع عاجلا أو آجلا. هذا ما وقع في إسكندرية جمال عبد الناصر، لكنه يقع اليوم في مصر السيسي، خاصة وأن زمن تصريف فعل العنوان تقع في الحاضر لأنها لم تدعي أن الأشجار مشت في الإسكندرية لكنها لازالت تمشي، والمشي تراكم يكبر مثل كرة الجليد المتدحرجة، حيث لن يردعه رادع إلا الوقوف، بيد أننا لم نلمس وقوفا لا في العنوان ولا داخل متن الرواية، لدرجة أن العنوان بدوره يمشي ويمشي دون أن نلمس بوادر وقوفه. لهذا فإن زمن الرواية يمتح من الماضي على مستوى الشكل وهو أمر صحيح، إلا أنه ينطلق من زمن الحاضر كي يصل إليه على مستوى المضمون، مما يدل على أن علاء الأسواني يرى أن زمن مصر زمن جامد وأن السيسي هو الوجه الآخر لعبد الناصر، لا فرق بين الإثنين إلا في الصور التي توجب أن تعلق على المكاتب والشوارع بل وحتى داخل ملاعب كرة القدم. ماذا تبقى للشعب الخائف والخنوع والمنافق غير التصفيق للزعيم وتبجيله، فإن بقي جاثما استمر التصفيق له، وإذا انتهى أمره سيتم التصفيق لمن سيأتي. هذا هو حال كل الدول العربية دون أي استثناء.. لهذا فالأشجار لا تمشي في الإسكندرية فقط، بل في كل المدن والقرى والمداشر...
ـ انتهت ـ