التعليم عن بعد.. للتجربة حدود

عبد الرحيم سموكني

وجد ملايين المتعلمين، موزعين بين مؤسسات التعليم العمومي والخاص، أنفسهم بين ليلة وضحاها ممنوعين من ارتياد المؤسسات التعليمية، بعدما قررت السلطات الوصية إغلاقها كإجراء استباقي لمنع انتشار عدوى فيروس كورونا المستجد في المملكة.

بشكل مباغت، غطى "كورونا" والمخاوف من تفشي الفيروس في فصول الدراسة وبين التلاميذ والطلبة، على جميع مشاكل التعليم، أحد القطاعات الحيوية في البلاد، والتي تعاني من مشاكل متناسلة ومتشابكة، وتحول الرهان إلى تفادي السقوط في سنة بيضاء، من خلال مواصلة التعلم والتدريس عن بعد، وهي الفكرة التي بدت صعبة الترويج أو التصديق، سيما من حيث التطبيق.

توقف قهري

بدا واضحا أن وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي حاولت إعداد جميع الأسئلة للمتسائلين الكثر، سواء من طرف أولياء التلاميذ أو من طرف التلاميذ أنفسهم، خاصة الدارسون الذين تنتظرهم الامتحانات الإشهادية.

بعد أسبوع من خوض تجربة التعليم عن بعد، نتيجة توقف قهري عن استقبال التلاميذ في المدارس والطلبة في مؤسسات التعليم العالي، تطرح أسئلة من قبيل ما مدى نجاعة الفكرة، وهل هي فكرة تسويقية شديدة التنميق؟ أم أن الفكرة تستحق الاختبار، ما دامت الحل الوحيد لتفادي سقوط ملايين التلاميذ في براثن العطالة والفراغ؟

يرى الأستاذ الجامعي والمتخصص في علوم التربية خالد بكاري أن التعليم عن بعد في المرحلة الحالية لا يعدو أن يكون تدبيرا استثنائيا لتقليص خسائر التوقف عن التعليم الحضوري، وهو ما يجب أن تعيه الأسر، مؤكدا على أن تكون الوزارة صريحة مع أولياء أمور التلاميذ بخصوصه.

بدون تأهيل

ويوضح بكاري، في تصريح لـ"تيلكيل عربي"، أن الانتقال المفاجئ من بناء التعلمات وفق إجراءات بيداغوجية وديدكتيكية وفق نمط التدريس الحضوري إلى نمط آخر دون تأهيل التلاميذ والأسر وحتى الأساتذة منتجي المحتويات الرقمية الديدكتيكية لا بد أن تعتريه نواقص كثيرة، لكنه يستردك ويقول إنه يبقى أقل الأضرار في وضعنا الراهن بالنسبة للتلاميذ الذين لهم إمكانية الولوج للمنصة الرقمية التي وضعتها الوزارة.

ويرى مدني أركاوي وهو إطار إداري، وأب لطفلين، أن تجربة التعليم عن بعد، ليست الوسيلة الأحسن لكنها تبقى خيارا عمليا، ويقول "لدي ابن في السنة الخامسة ابتدائي، ويتوصل كل صباح بدروس من معلميه عبر تطبيق "الواتساب"، وعليه أن ينجز تمارينه ويرسلها كصور ملحقة، وهذا الأمر خلق نوعا من الشفافية في الدراسة، لأن الوالدين صارا في علاقة مباشرة مع المعلم، كما أن إرسال الواجبات المدرسية عبر وسيلة رقمية، خلق نوعا من المنافسة بين التلاميذ، لأن مقارنة ما ينجزه الجميع صارت متاحة للوالدين والتلاميذ معا. في نظري، هذا أمر إيجابي، لم نكن نتوقعه من قبل".

ويتابع هذا الأب، البالغ من العمر 53 عاما، "أعتقد أن التعليم عن بعد يصلح لتلاميذ الابتدائي، فمثلا لدي ابنة في مرحلة الباكالوريا، شعبة العلوم التجريبية، وهي ليست مقتنعة أبدا بالدروس الموضوعة على منصة "تلميذ تيس"، وترى أن التفاعل ضروري لفهم الدروس، كما أن خيار بث دروس عبر القناة الثقافية، يعتبر مربكا نوعا ما للتلاميذ، خاصة أنهم ألفوا أسلوبا مباشرا ومع أستاذ معين، لكن ليس أمامنا خيار، وهي وسيلة أحسن من لاشيء".

"حيف" في حق البعض

بين تطبيقات التخاطب الفوري ومنصة "تلميذ تيس"، يختلف التلاميذ، "ملاك"، طفلة في المستوى الابتدائي بمدرسة خاصة، سعيدة بالتخاطب الفوري عبر "الواتساب"، إلى جانب زملاء قسمها، مع أستاذ كل مادة في حصته المعتادة (استعمال الزمن)، وتشعر كأنها بالقسم فعلا.

أما "دعاء" و"هاجر"، فهما تشعران بنوع من "الحيف" في "تلميذ تيس"، يريان، على التوالي، أن "الباكلوريا الدولية باللغة الفرنسية" (BIOF) والعلوم الاقتصادية لم تأخذ حقها في المنصة الرقمية، ولم يتم الالتفات إليهما إلا قليلا وفي الأيام الأخيرة.

ففي بلد تتعدى فيه نسبة النفاذ إلى الإنترنت 50 في المائة، يبقى طرح السؤال عن كيفية استفادة من يعانون فقرا رقميا من التعليم عن بعد، أكثر إلحاحا، غير أن خالد بكاري كشف نقطة مهمة، تتعلق بتسبب التعليم عن بعد في تعميق الفوارق التعلماتية بين تلاميذ التعليم أنفسهم، ويوضح  "ليس بإمكان شريحة واسعة من التلاميذ الولوج للمنصة الرقمية التي وضعتها الوزارة، إما بسبب عدم وجود تغطية للشبكة الهاتفية، أو عدم توفرهم على الحامل الرقمي الكفيل بالولوج لهذه المنصة (هاتف ذكي/لوح إلكتروني/حاسوب)، أو بسبب الهشاشة المادية للأسر التي لا تسمح لها بتعبئة الرصيد الهاتفي، وهذا سيعمق الفوارق في بناء التعلمات حتى بين تلاميذ المدرسة العمومية.

ويدعو بكاري إلى ضرورة التفكير في هذه الفئة الهشة من التلاميذ، ويقول "إذا انتهت هذه الأزمة في آجال معقولة، فعلى الوزارة الوصية التفكير في إجراءات لدعم هؤلاء التلاميذ".

طرق "تقليدية"

يرى "ع.ح" وهو رجل تعليم في السلك الابتدائي، أن تجربة التعليم عن بعد تبقى فكرة مفيدة، وهي عملية يمكن أن تنجح في المناطق النائية، حتى وإن لم تكن جائحة "كورونا" قد حلت، ويضيف "التعليم عن بعد يتطلب وسائل لوجستيكية من الطرفين المرسل والمتلقي، ونحن في أحيان كثيرة نضطر لشراء الطباشير من جيوبنا، ثم إن المناطق النائية، التي يمكن أن تنجح فيها العملية، لا تتوفر على بنيات تحتية للاتصالات أو أن الأسر، حتى وإن كانت تتوفر على هاتف ذكي، فسيكون من الصعب أن تتكيف مع هذا الأسلوب".

ويضيف رجل التعليم، الذي راكم قرابة 22 عاما من العمل، "الإشكال مطروح لدى تلاميذ الثانوي، الذين يعتمدون على دروس التقوية في الرياضيات والفيزياء مثلا، أما بالنسبة  للابتدائي، فيكفي في اعتقادي تأطير جيد من الوالدين، ومتابعة يومية لتحصيل أبنائهم ستكون كافية".

هذه الفكرة الأخيرة، اعتمدتها الكثير من المدارس الابتدائية العمومية، خصوصا بالنسبة إلى مادون السنة السادسة (الإشهادية)، فقد تم الاكتفاء بتكليف التلاميذ، يوم السبت 14 مارس، قبل ملازمة البيوت بعد ذلك، بواجبات منزلية أكثر من المعتاد، ليتم التعوين على "تأطير" والديهم لهم.

وحتى في مستويات الإعدادي، عمدت مؤسسات خاصة إلى تكليف أساتذة المستوى الإعدادي بإعداد دروس وتمارين مع حلولها واستنساخا وتوزيعها على آباء وأمهات وأولياء التلاميذ...

تجربة "واعدة"

لكن، هل يمكن أن تكون لتجربة التعليم عن بعد، رغم الظروف المباغتة التي خرجت فيها إلى النور ورغم محدوديتها، إيجابيات، بعد انتهاء حالة الطوارئ الصحية؟ يجيب المتخصص خالد بكاري بالإيجاب، ويقول "في اعتقادي أن تجربة التعليم عن بعد التي وجدنا أنفسنا مضطرين لها، سنخرج منها بإيجابيات كثيرة في المرحلة المقبلة حين تستقر الأوضاع، سواء لجهة تجويد المنصات والمحتويات الرقمية، أو لجهة تمهير المتعلمين والأسر والتربويين عليها".

ويشدد بكاري على أنه "يجب أن ننتبه أن التعليم عن بعد يكون فعالا في الأوقات الاستثنائية، كما في أنشطة الدعم والتقويم، ولكنه لا يعوض التعليم الحضوري الذي يبقى هو أساس التعلم وأساس بناء الكفايات اللغوية والرياضية والعلمية والتواصلية وغيرها، وفضاء للتربية على القيم والتربية على الاختيار".