تعيش الجزائر منذ 22 فبراير على إيقاع حراك غير مسبوق، ضد العهدة الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي لم يعد يزاول الحكم مباشرة منذ 2013. ما هي حظوظ "نجاح" الحراك في تغيير النظام الجزائري؟ وما أثره، في هذه الحالة، على العلاقات مع المغرب، خصوصا في ما يرتبط بقضية الصحراء.
"قد ينجح الحراك في الجزائر إذا توفر شرطان. الشرط الأول هو أن تصمد التعبئة وتتقوى، ويكسب فاعلين جددا، ويصبح الفاعلون فيها متعددين. والشرط الثاني هو أن يتأسس إطار مؤسساتي يمكن أن يحاور النظام الحاكم، في إطار مجلس انتقالي أو مؤسسة انتقالية، تكون لها القدرة المؤسساتية والشرعية الشعبية، ولها اعتراف داخلي، سواء من طرف الشارع أو من طرف المجتمع المدني أو من طرف الأحزاب السياسية، لمحاورة النظام الحاكم مباشرة"، هذا ما يراه رشيد بلباه، الأستاذ الباحث بمعهد الدراسات الإفريقية بالرباط والخبير بالشؤون الجزائرية، أفقا للحراك الجاري في الجارة الشرقية للمغرب.
الخوف من المحاسبة
يعتبر الباحث المغربي أنه "يصعب التكهن بمآل ما يجري في الجزائر ولكن هناك وضع موضوعي"، ما يجعله يتصور شرطين لنجاحه. ويوضح، في حديثه لـ"تيل كيل عربي"، أنه "إذا تحقق الشرطان، يمكن أن تنجح التعبئة، وإذا لم يتحققا سيسير الأمر في اتجاه صيغ جديدة للإصلاح، ولكن الحال سيبقى على ما هو عليه، لأن الإشكال ليس في الشخص (الرئيس عبد العزيز بوتفليقة)، ولكن الإشكال في النظام، والمطالبة هي مطالبة بتغيير النظام".
لكن لماذا تشبث الرئيس الحالي ومحيطه، مع مؤسسات الدولة العميقة، بولاية خامسة؟ وماذا عن طبيعة التشبث وطرح انتخابات رئاسية على أساس مؤتمر وطني اندماجي مستقل وإصلاحات اقتصادية واجتماعية وتغيير النظام ودستور جديد وجمهورية ثانية؟
أسئلة يجيب عنها الأستاذ الباحث، في إطار وضعها في سياقها، ويقول موضحا "هناك إشكاليات عميقة جدا يجب حلها، قبل اتخاذ أي مبادرة، والإشكال المطروح هو أن خروج المواطنين إلى الشارع أربك المؤسسة الحاكمة في هذا المسار".
ويلخص رشيد بلباه الإشكالات العميقة في كون مسألة تصور انتقال سياسي للمؤسسات وبطريقة مرنة جاء على أساس أن تبقى المنظومة متحكمة في المسار السياسي الذي هو مرتبط بمصالح اقتصادية أساسا.
وفي الإطار الاقتصادي، وفضلا عن المصالح الاقتصادية للنظام، هناك البعد الاقتصادي للأزمة بصفة عامة، ويعتبر الباحث أنه "بعد نهاية الحرب الأهلية (العشرية السوداء)، دخلت الجزائر في طفرة اقتصادية، كانت نفطية أساسا وكبيرة جدا. ونتحدث هنا عن مئات مليارات الدولارات أو أكثر. هذه الثروة كلها لم تظهر، لا في النمو الاقتصادي، ولا في حل مشاكل الساكنة، فقد كانت هناك فقط 'مساعدة اجتماعية' (assistanat) لا أكثر؛ مثل المساعدات في السكن، ولكن لم تحقق الطفرة الاجتماعية، بل بالعكس تفاقمت الأزمة الاجتماعية. فقد صرفت أموال كثيرة، وهناك كلام عن فساد وسرقة... وهذا إشكال خطير للغاية وأنا أظن أنه لو تغير النظام السياسي في الجزائر، سيطرح إشكال المحاسبة، ومحاسبة من؟ بمعنى محاسبة المؤسسة السياسية، والمؤسسة العسكرية خاصة، والمؤسسة الأمنية، وبعض الأطراف التي كانت تستفيد في القطاع الخاص من نظام الريع".
ويؤكد بلباه على أنه ستطرح أيضا مسألة الحرب الأهلية وتداعياتها وإشكالاتها بسرعة، رغم سياسة الوئام الوطني (المصالحة)، التي لم تجد أجوبة لأسئلة كثيرة، على حد تعبيره.
جمود وهوامش
في خضم الحراك، يرى بلباه أنه على المستوى السياسي، هناك إشكال في الجزائر هو أن "النظام جامد أساسا، ولكن هناك عنصر متحول فيه، مرتبط بأحزاب سياسية، تحاول أن تجد ذاتها في اللعبة السياسية، دون أن تتواطأ مباشرة مع النظام، مثل حزب العمل مع لويزة حنون، وحركة مجتمع السلم (إسلامية) مع عبد الرزاق مقري وحزب طلائع الحريات لعلي بن فليس التي أصبحت تستفيد من الدينامية في الهامش". وشدد على أن "هناك أحزاب سياسية تجد نفسها في 'حواشي' اللعبة السياسية، فضلا عن الدينامية التي تشتغل داخل الشباب الجزائري، الذي أصبح يرفع مطالب ويرى أن له القدرة على التعبئة والخروج إلى الشارع. هل سيستطيع التغيير؟ هذا سؤال آخر".
السؤال الذي يتعلق بالمآل صعب بالنسبة للخبير في الشأن الجزائري، "لأنه يطرح مسألة السيناريوهات"، لكن يتبين اليوم أن "المؤسسة الحاكمة وجميع الفاعلين داخلها لم يستطيعوا أن يكون لديهم تصور جديد وبقوا على أساس الحفاظ على المصالح، وتجاهلوا المطالب، ويمكن أن تتأزم الأوضاع إذا لم يطرح حل. لماذا؟ هناك اجتماع أحزاب المعارضة لاتخاذ موقف موحد (طالبت سلطات البلاد بتفعيل المادة 102 من الدستور الجزائري؛ أي إعلان ثبوت شغور منصب رئيس الجمهورية، وتأجيل انتخابات 18 أبريل الرئاسية)، وهناك مثلا المقري الذي كان دائما يحاول أن يجد حلولا وسطى، لكنه لم يستطع ذلك هذه المرة، لأن مجلس شورى حزبه رفض ترشيحه للرئاسيات، بمعنى أنه ستكون هناك غالبا معارضة مطلقة للانتخابات، وإذا عارضت المعارضة فإن الانتخابات ستكون فاشلة أساسا".
وسجل الباحث أنه كان هناك، قبل ذلك، تصريح لرئيس الهيئة المستقلة العليا لمراقبة الانتخابات عبد الوهاب دربال يفيد بأنه يتعين على كل المرشحين أن يتقدموا شخصيا لإيداع ترشيحاتهم (وهو ما لم يقم به بوتفليقة)، "ما يعني أن الأمر يتأزم مؤسساتيا وسياسيا". كيف ستعامل الشارع مع المسألة؟ يعتقد المتحدث "أن التعبئة ستستمر، في طريق السلمية، لأنه ليس في صالحها أن يكون هناك عنف، لأن هذا العنف قد تستغله المؤسسة الحاكمة. لذا سيحاول الشباب أن تبقى التعبئة سلمية وستسير الأمور، كما في فنزويلا، وسيبقى هناك أخذ ورد، لأن هناك تعبير جديد"...
ربيع عربي جديد؟
هناك من يعتبر، خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية، أن ما يجري في الجزائر والسودان، هو صيغة جديدة من "الربيع العربي"، بدون تنسيق بين الشعوب العربية وبدون "عدوى"، بحيث يظل كل شعب يحمل همه الخاص. ويرد بلباه على هذه الأطروحة بأن الربيع العربي لم يكن فيه تنسيق، وكان حركة تلقائية، ظهرت في تونس وبعد ذلك نجحت ما جعل المحاكاة، وليس العدوى، تقع في بلدان أخرى. والأنظمة، في نظره، تختلف، فالنظام التونسي كانت له مؤسسات منذ عهد الحبيب بورقيبة الذي بنى المؤسسات على خلاف ليبيا، وأيضا هناك خصوصية طائفية ودينية في سوريا وقد طرحت لديها إشكالات في الثمانينات من القرن الماضي. ويوضح أن ما يقع الآن ليس ربيعا ثانيا، بل "هذه حالة استفحال للوضع"، الذي يبقى "واضحا للغاية"، وبيّن أنه "منذ 2013 لا يزاول رئيس البلاد مهامه مباشرة؛ بمعنى أن الشعب الجزائري كان ينتظر أن يتنحى الرئيس، لكن الأمر لا يتعلق بشخص بل بنظام لديه مصالح قوية وكبيرة ولم يستطع تجاوزها". واستدرك أنه "كان هناك كلام عن طرح اسم رمطان العمامرة، ولكن هذا الأخير ليست لديه القوة الرمزية والمرجعية التاريخية لجيل المجاهدين".
وشدد بلباه على أن "الأمر لا علاقة له لا بربيع ثان ولا بمسألة عدوى". وأوضح، في هذا السياق، أن "هناك احتجاجات وهي تمر بمراحل؛ مرحلة العفوية في الأول، مثل ما وقع في حراك الريف أو مناطق أخرى في بلدان أخرى، وتكون هناك مطالب اجتماعية، ثم تأتي مرحلة التأطير، عندما تبرز بعض المجموعات التي لها توجهات سياسية أو إيديولوجية أو مصالح اقتصادية وتحاول أن توجه تلك التعبئة وتعطيها إطارا معينا. حينذاك تدخل التعبئة في إطار البناء. هذا ما رأيناه في الريف، حيث دخلت في المرحلة الثانية كثير من المجموعات لها توجهات دينية أو سياسية أو إيديولوجية وحاولت أن تعبئ ولها أجندات، والخاسر دائما هو الشباب، بحيث لا تتحقق مطالبه وتكون هناك صراعات"، على حد قوله.
وأضاف الباحث المغربي أن "الشارع الجزائري يتنظم الآن وهناك تأطير، وسنرى هل سيتم ذلك من المجتمع المدني أو من مجموعات لها خلفيات سياسية أو إيديولوجية أو لها مصالح اقتصادية. ولا أظن أنه سيكون هناك تأطير من طرف الأحزاب، لأن الشباب لا يثق كثيرا في الأحزاب رغم أننا نرى أن طلائع الحريات أو حركة مجتمع السلم دورا"...
وأكد أنه في "الحركات الاجتماعية، يخرج الشباب بقوة إلى الشارع ويرفع مطالب، ولكن هذا لا يعني أنه قادر على تحقيق مبتغاه، لأن تحقيق الأخير يحتاج التأطير وإذا كانت هناك أجندات في التأطير تطرح إشكالات".
وبالنسبة لحالة الجزائر، يؤكد الباحث أن "ما يقع عضوي، وهناك إشكالات داخلية منذ نهاية الحرب الأهلية وهي تتزايد، لأن الثروة النفطية كانت تهدّئ وتجد حلولا، ولكن هناك أزمة اقتصادية ومشاكل اجتماعية اليوم، ولم تعد هناك قدرة على شراء السلم الاجتماعي. فالنظام الجزائري لم تعد له القدرة على بلورة سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية ناجعة. والعامل الثقافي سيبرز شيئا فشيئا، وهو مرتبط بمنطقة القبائل والجنوب الجزائري، وسيظهر ما دامت هناك مشاكل ومادامت هناك تعبئة. وهناك في هذا الجانب، حضور الحزب الديمقراطي الثقافي وهو بارز في الساحة. وسيزداد الأمر تعقيدا ما استمرت التعبئة".
لكن يبقى "الإشكال الخطير هو استغلال الوضع والدفع في اتجاه استعمال العنف، وإذا وقع ذلك ستكون هناك كارثة. وإذا ظلت التعبئة في إطار السلم، ستضطر المؤسسة الحاكمة إلى تقديم تنازلات وتتخلى على التعهدات التي تقدم بها بوتفليقة في الطرح الجديد"، حسب المتحدث.
الطرح الجديد تظهر ملامحه في رسالة بوتفليقة، التي يلاحظ بلباه أنها "تضمنت أدبيات الشرعية السياسية وجيل المجاهدين والتعهد أمام الله والشعب الجزائري وفيها أساسا الدعوة إلى جمهورية ثانية، هذا هو الطرح الجديد الذي يتضمن تسليم زمام الأمور للجيل الجديد. ولكن بأي صيغة؟ هو يدفع بصيغة أن الجيل القديم هو الذي سيسلم السلطة؛ بمعنى أنه سيبقى في الحكم لمدة سنة واحدة. ولماذا هذه السنة؟ لحل إشكالات ترتبط بالمحاسبة، التي ستكون قاسية للنظام القديم والمجموعات التي استفادت منه منذ الحرب الأهلية إلى اليوم؛ أي من 1991 إلى 2019".
ويصر الباحث على أن "الولاية الخامسة هي نقطة الماء التي أفاضت الكأس، وأن مسارا داخليا، وليس خارجيا، هو الذي دفع في هذا الاتجاه، في غياب دينامية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية"...
قضية الصحراء والمخيمات
هل ينتقل الحراك إلى مخيمات تندوف؟ وهل سيؤدي الحراك إلى تغيير في موقف الجزائر من قضية الصحراء؟ أسئلة يجيب عنها بلباه بتحفظ، لأنه "يصعب ربط ما يقع في المدن الجزائرية بالمخيمات"، لأن "الوضع مختلف جدا". ويوضح أنه في المخيمات وفي الشتات، في إسبانيا مثلا، هناك جمعيات تدافع عن طرح الانفصال ولكنها في صراع مباشر مع جبهة البوليساريو وهي راديكالية، لأن فيها كثيرين يدعون إلى حمل السلاح... وهذه الجمعيات أصبحت لها قوة تحريك الشباب. وحتى في مخيمات تندوف هناك شباب يدعو إلى التغيير، ولكن ليس في إطار الحوار مع المغرب، بل بالعكس غالبيتهم ضد طرح الحوار. ولحد الساعة، ليس لهم القوة لتغيير مجرى التاريخ داخل المخيمات وليس لهم القوة على الضغط على جبهة البوليساريو في هذا الاتجاه لحد اليوم".
ولا يظن المتحدث أن ما يقع في الجزائر سيكون له وقع مباشر وحاسم في مخيمات تندوف ولا في الشتات، خصوصا في إسبانيا، لأنه في 1988 وقعت مظاهرات قوية في الجزائر وكادت تعصف بنظام الشاذلي بن جديد ولكن لم يكن لها وقع في المخيمات، ثم جاءت الحرب الأهلية لمدة 10 سنوات، ولم تغير شيئا، ولو بسيطا، في ما يجري داخل المخيمات".
وأكد أن "دينامية الشباب الذي يدعو إلى الانفصال هو معطى جديد، ولكن ليس له القوة التي تكفي لتغيير جذري في منظومة جبهة البوليساريو".
ولو تغير النظام الجزائري جذريا، هل سيتغير موقف الحكام الجدد من قضية الصحراء؟ حول هذا السيناريو، يؤكد الباحث المغربي أن "المغرب عندما يدعو إلى الحوار لديه محاوِر، وهو دستوريا الملك والحكومة المنتخبة، وهو محاور له القدرة على اتخاذ القرارات الاستراتيجية. المشكل أنه من الجانب الآخر، تبيّن، خصوصا في السنوات الأخيرة، أنه ليس هناك محاور. يمكن أن الجديد، وهذا تكهن فقط لو دخلت الجارة الشرقية للمملكة، في سياق سياسي جديد، هو أن يصبح للمغرب محاور جديد منتخب من طرف الشعب الجزائري". قبل أن يستدرك أنه "في مسألة الصحراء كان هناك تكييف ثقافي وسياسي كبير. في المخيال السياسي الجزائري، المسألة لدى غالبية الجزائريين محسومة وليسوا مع الطرح المغربي والمفاوضات لأن الإشكال أعمق مما نتصور"...