الحكم الذاتي.. كأنجح حل للنزاعات الإقليمية (4)

محمد زيتوني

النموذج الإندونيسي

من أرقى وأنجح خيارات و حلول النزاعات الاقليمية التي وصلت اليها أنظمة الحكم ضمن القوانين والدساتير الدولية ، للحد من الحروب والصراعات والتطاحنات العنيفة و الهدامة و من أجل السلم وتهدئة الأوضاع : خيار وحل الحكم الذاتي.

الحكم الذاتي هو خيار تنظيمي مجالي يعني قدرة جماعة أو منطقة معينة على اتخاذ قراراتها وإدارة شؤونها المباشرة واليومية بنفسها، في إطار الضوابط القانونية والدستورية التي تهمها وتهم محيطها .

أما على مستوى السياقات والإطارات القانونية والسياسية، فتبني الحكم الذاتي يعني قدرة منطقة جغرافية أو مجموعة "عرقية "أو ثقافية معينة على إدارة شؤونها الاقتصادية والثقافية والإدارية المحلية ،والتمكن من بعض السلطات السياسية دون الخضوع الكامل لسلطة الحكومة المركزية، ودون الانفصال عن الفضاء الوطني العام وسلطة الدولة الأكبر أو الدولة الأمة.

يبلغ عددسكان إقليم أتشيه بإندونيسيا حوالي 5ملايين وأربعة مائة الف نسمة حسب تقديرات عام 2020.

أما من حيث المساحة، فيغطي أتشيه حوالي 57,956 كيلومترًا مربعًا، وهو ما يجعله من الأقاليم الكبيرة نسبيًا في إندونيسيا.

إقليم أتشيه، الواقع في الطرف الشمالي من جزيرة سومطرة في إندونيسيا، يتمتع بقدر كبير من الحكم الذاتي، ويُعرف بتطبيقه للشريعة الإسلامية في قوانينه المحلية.

حصل أتشيه على هذا الحكم الذاتي في إطار اتفاقية السلام التي وقعت سنة 2005 بين الحكومة الإندونيسية وحركة “آتشيه الحرة” التي كانت تطالب بالاستقلال. جاء هذا الاتفاق لإنهاء عقود من النزاع المسلح وأعمال العنف.

بدأ النزاع في إقليم أتشيه بإندونيسيا منذ منتصف السبعينيات، بعد أن تأسست حركة أتشيه الحرة (GAM) عام 1976 والتي طالبت بالاستقلال الكامل عن إندونيسيا، معتبرةً أن الإقليم له تاريخ مميز وهويته الثقافية الخاصة، وأرادت إنهاء استغلال موارده الطبيعية من قبل الحكومة المركزية.

استمر الصراع بين الحركة والحكومة الإندونيسية لعقود، وتسبب في مقتل الآلاف ونزوح الكثيرين. تصاعد النزاع بشكل خاص في التسعينيات، حيث قامت الحكومة بحملات عسكرية واسعة النطاق لمواجهة الحركة، وكان هناك توترات كبيرة بين القوات الحكومية والمتمردين، مما أدى إلى تدهور الأوضاع الإنسانية في الإقليم.

وفي عام 2004، وبعد أن ضربا زلزال وتسونامي المحيط الهندي المنطقة، وأسفر عن دمار واسع النطاق وأدى إلى مقتل أكثر من 100,000 شخص في أتشيه وحدها. ساهمت الكارثة في تغيير مسار النزاع ،إذ دفعت الطرفين إلى العودة لطاولة المفاوضات.

وفي عام 2005، تم توقيع اتفاق سلام في هلسنكي بين الحكومة الإندونيسية وحركة أتشيه الحرة، بوساطة فنلندية. حصلت بموجبه أتشيه على حكم ذاتي واسع النطاق، ووافقت حركة أتشيه الحرة على التخلي عن مطلبها بالاستقلال.

في ظل هذا الحكم الذاتي، يُسمح لأتشيه بإصدار قوانينها الخاصة في مجالات متعددة، بما في ذلك الشؤون الدينية والتعليمية وبعض القضايا الاجتماعية. تطبق الشريعة الإسلامية بشكل أكبر مقارنةً ببقية أقاليم إندونيسيا، ويشمل ذلك قوانين تتعلق بالملابس، والقمار، وشرب الكحول، والعلاقات خارج الزواج، وتُطبق العقوبات الإسلامية في بعض الجرائم.

وكان الهدف من هذا الحكم الذاتي هو تحقيق التوازن بين احترام الخصوصية الثقافية والدينية لشعب أتشيه وبين الحفاظ على الوحدة الوطنية الإندونيسية.

ويمكن التأكيد على أنه ما ترتب على خيار نظام الحكم الذاتي في إقليم أتشيه، عدة نتائج مهمة على الأصعدة السياسية والاجتماعية والقانونية، ومن أبرزها ، طبعا الاستقرار والسلام حيث أسهم الحكم الذاتي في إنهاء عقود من النزاع المسلح بين الحكومة الإندونيسية وحركة أتشيه الحرة، وقلل من أعمال العنف في الإقليم، مما أتاح فرصة أكبر للاستقرار والتنمية.

و يتميز إقليم أتشيه عن بقية الأقاليم في إندونيسيا بتطبيقه قوانين الشريعة الإسلامية في بعض القضايا الاجتماعية والدينية، مثل الملابس العامة، والعقوبات على شرب الكحول، والزنا، والمقامرة. وأصبحت محاكم الشريعة جزءاً من النظام القضائي في الإقليم ، الذي يملك صلاحيات أوسع في إدارة موارده وتسيير شؤونه المحلية، بما في ذلك حقه في استغلال موارده الطبيعية مثل النفط والغاز، مع مشاركة الحكومة المركزية في العائدات، مما دعم التنمية الاقتصادية ، حيث أنه عقب اتفاق السلام، حصل الإقليم على دعم دولي كبير لإعادة الإعمار بعد تسونامي 2004، وتحسنت البنية التحتية والخدمات الأساسية، كما تم خلق فرص عمل جديدة في الإقليم.

و استطاع هذا الأخير بفضل دعم الحكم الذاتي ، الحفاظ على الثقافة والتقاليد المحلية في أتشيه، التي تتميز بتنوعها، مما عزز من الشعور بالهوية والانتماء لدى سكان الإقليم ، الذين سمح لهم بتأسيس نظام حكم محلي أكثر انفتاحاً، مما أتاح الفرصة لسكان الإقليم لانتخاب ممثليهم محلياً، وظهرت أحزاب سياسية جديدة كانت ممنوعة سابقاً.

وبشك عام يمكن القول والتأكيد أن الحكم الذاتي كان عاملاً هاماً وأساسيا في تحقيق السلام وتعزيز التنمية والاستقرار في إقليم أتشيه، رغم استمرار التحديات مثل الحاجة لتطوير اقتصاد الإقليم وتقليل الفقر وتحسين البنية التحتية.