الأغنياء محميون داخل إقاماتهم بكلاب الحراسة والكاميرات. بينما يتفشى في المقابل، العنف والجريمة في أحياء أخرى. وبين جنون العظمة والانعدام الحقيقي للأمن، تعيش المدن المغربية في "غيتوهات" منعزلة، لا تكفي بعضها كاميرات لرصد ذلك التخوف.
في الأحياء الغنية بالدار البيضاء، الصورة تتكرر: حارس مسلح بمصباح يدوي، جهاز اتصال لاسلكي، عصا كهربائية وكلب حراسة، في حين ترتبط كاميرات المراقبة وأجهزة الإنذار بجهاز مركزي.. في هذه الأحياء، وخصوصا بمدينة الدار البيضاء، يدخر السكان مالا من أجل حمايتهم الشخصية وحماية ممتلكاتهم، وهو ما جعل مجال الحراسة يعرف طفرة نوعية. اليوم، نجد أكثر من 1500 شركة أمن خاص (بما فيها تلك المكلفة بحراسة الأبناك والمنشآت الصناعية)، مسجَّلة لدى مختلف ولايات وعمالات المملكة، دون احتساب التي تعمل بشكل غير رسمي، وذلك حسب الجمعية المهنية للأمن الخاص.
حسب أرقام وزارة الداخلية، فإنه يوجد بين 100 و150 ألف حارس أمن مسموح لهم بحمل العصي الكهربائية ورشاشات رذاذ الفلفل (لاكريموجين)، وذلك حسب قانون 2007، المؤطر للمهنة. وبهذا الصدد، يقول أحد المهنيين في المجال: "في غضون سنتين، لم ألاحظ أن الطلب قد ارتفع، لكن في المقابل، أصبح الزبائن أكثر طلبا". مضيفا أن حي أنفا بالدار البيضاء، هو الأكثر إقبالا على هذه الخدمات.
حرس خاص لتحركاتكم
يرى المشتغلون بالميدان أن الزبناء متطلبون، ولا يترددون في اللجوء إلى خدمات الحراس الشخصيين. ويقول باكي أفغون، مدير شركة NS في حديثه إلينا: "نتلقى عددا كبيرا من الطلبات لحراس شخصيين"، مشيرا إلى إقبال السيدات على طلب هذا النوع من الخدمات؛ "فبعض النساء تلجأن إلينا باستمرار، لنوفر لهن حراسة أثناء ذهابهن للمحاكم، لأجل حضور جلسات قضايا مع أزواجهن السابقين، في حين أن أخريات يطلبن مرافقة في كل تنقلاتهن بين المنزل والعمل". يرى هذا المهني في المجال، أن هناك "بعض الحالات تهوّل من الأمر، باستثناء الطلبات المخصصة للفيلات التي تظل أكثر عرضة للسرقة".
لكن ألا تستغل هذه التجارة خوف الناس؟ فالحراسة 24 ساعة على مدار اليوم، لتجزئة ببوسكورة تضم حوالي 20 فيلا بكلب حراسة ودون كاميرا، تكلف شهريا 25 ألف درهم. أما إذا كنت تملك فيلا بأبواب ونوافذ متعددة، وتريد حمايتها كليا (أي بكاميرات 360 درجة، وإمكانية الكشف عن وجود الأشخاص..) فسيكلفك الأمر حوالي 100 ألف درهم شهريا، حسب ما أفاد لنا به أحد العاملين في هذا المجال.
إذن، أصبح الأمن أمرا أساسيا في عملية البيع بالنسبة للمنعشين العقاريين. إذ لم يسبق مثلا بهرهورة أن كانت متاحة للجميع بهذا الشكل، حيث أصبحنا نجد شققا ابتداء من 8500 درهم للمتر، في مجمع شاطئي ومحمي. ويوضح لنا عبد الرحمن رياض، رئيس الجمعية المهنية للأمن الخاص، "أن جميع الخدمات الأمنية تعتمد أساسا على الردع، لكون الحراس يمنعون أعمال التخريب. فالناس يقولون لأنفسهم: لقد حدث الأمر مع جاري، لذا علي اتخاذ الاحتياطات اللازمة لكي لا أكون الضحية التالية". المتحدث يؤكد أن عقلية المغاربة عرفت تغيرا وتوجسا، إذ أصبحوا يسعون للحماية بشكل أكبر، بفضل تأثير شركات التأمين.
هل الاحساس بانعدام الأمن هذا مبرر؟ للأسف، لا يكفي الرجوع إلى أرقام الأمن الوطني، التي تؤكد أن هناك انخفاضا واضحا في الجرائم، مقابل تزايد أعمال العنف. في ذات السياق، تعرف الاعتقالات في الأحياء الراقية ارتفاعا. فهل هذا راجع لكثرة أعمال السرقة بها، أو لأن الشرطة تتواجد بها باستمرار؟ من الصعب الإجابة ببساطة.
نهاية حقبة
تحكي لنا خمسينية قاطنة بأحد أحياء البيضاء الراقية: "تعرضت للسرقة 4 مرات، لذا عندما أتجول في الشارع اليوم، ألازم الحائط". وتصف أستاذة الأنثروبولوجيا غيتة الخياط، الأمر "باليقظة المرعبة في جميع الأوقات"، إذ أن الأغنياء الذين يضعون لأنفسهم حواجز، بسبب الخوف أو احتقار الآخر، فإنهم يفعلون ذلك أيضا لسبب وجيه. وتستفيض المتحدثة أن السبب راجع لارتفاع معدلات الجريمة وللهجرة القروية، وللنمو الديموغرافي؛ فكلما زاد العدد زادت الجريمة، بإزاء تنامي الحركية، وكثرة النساء العاملات، وقلة الاستقرار العائلي.
المهندس المعماري والمخطط الحضري عز العرب بنجلون، يعود بالذاكرة إلى سنوات السبعينيات، حين كان الجيران من مختلف الطبقات الاجتماعية، حيث ترعرعوا مع بعضهم، وكانوا يحمون بعضهم البعض. تلك الحقبة تميزت، حسب المهندس، بالحوار والتنوع عن ما نعيشه اليوم من انحراف. فالمدينة المغربية "تنعزل ويختفي منها التنوع الاجتماعي، لا سيما بمدينة الدار البيضاء".
خلال افتتاح الدورة البرلمانية الخريفية لأكتوبر من سنة 2013، أشار الملك محمد السادس في خطابه إلى أن الدار البيضاء "مدينة التفاوتات الإجتماعية الصارخة، حيث تتعايش الفئات الغنية مع الطبقات الفقيرة، وهي مدينة الأبراج العالية وأحياء الصفيح، ومركز المال والأعمال والبؤس والبطالة وغيرها". هذا الوضع يتخلص في وجود طبقات غنية وراقية تحمي نفسها، وأخرى أضحت تشكل مجتمعات مغلقة، مقابل طبقة مسحوقة مقصية من مركز المدينة، وتقطن بأماكن ينعدم فيها الأمن؛ كالحي الحضري الجديد "الرحمة"، في النواحي بين حي "الألفة" و"دار بوعزة"، غير بعيد عن الطريق السيار للدار البيضاء... إذن كيف وصلنا لهذا الحد؟
الآثار الضارة للتخطيط الأمني
في رأي عز العرب بنجلون، فإن جذور الأزمة تعود إلى سنة 1980، حيث عرفت الهجرة القروية مستويات مرتفعة، تلتها أعمال الشغب في سنة 1981، والتي نبهت الدولة إلى ضرورة استعجال وضع مقاربة مختلفة للتحضر.لأجل ذلك، استعان ادريس البصري، وزير الداخلية آنذاك، بالمهندس المعماري الفرنسي، ميشيل بانسو، الذي صمم مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء.
قام المسؤولون باختيار نموذج حضري لخلق شبكة عمرانية جديدة للعاصمة الاقتصادية، ولتفادي الانتفاضات الشعبية. سُمي ذلك في تلك الفترة، حسب بنجلون، بالتخطيط الأمني الذي توسعت فيه المدينة بطريقة نصف دائرية حول المدينة القديمة، وتقرر إنشاء أحياء شعبية بطريقة مستقيمة. تلى ذلك البرنامج الوطني لـ200 ألف سكن اجتماعي، الذي دشنه الحسن الثاني سنة 1994.
في سنة 2003، وبعد الهجمات الإرهابية، جاء الدور على برنامج "مدن بدون صفيح"، الذي أطلقه الملك محمد السادس لاستكمال الطريق. وهو برنامج طموح مكن من القضاء على أكثر من نصف الأحياء العشوائية في المغرب، لكنه لم يخلو من العيوب. فقد كان المنعشون العقاريون دائما محط انتقادات بسبب سوء جودة المساكن، التي تفتقر للبنى التحتية والمبنية أساسا في أماكن غير صحية.
تخلق هذه الانتقائية والفصل في المساحات نوعا من الانحراف المجتمعي، كما يسميه أستاذ علم الاجتماع جمال خليل. المتحدث ذاته يوضح، أن "سكان هذه الأحياء الهامشية يشعرون بالتمييز والتخلي عنهم، وبالتالي يقررون بدورهم التخلي عن مجتمعهم والتوجه نحو العنف اللفظي والجسدي". ويضيف الباحث أن "هذه الأحياء تفتقر لمساحات للتنشيط الثقافي والرياضي، لكونها مهاجع لسكانها"، وبالتالي فإنهم "لا يشعرون بالانتماء لهذا المكان، فيقومون بإهماله".
من جهته، وزير السكنى والتعمير وسياسة المدينة، نبيل بن عبد الله، يعترف: "صحيح أننا شيدنا الكثير، وقد فاتنا الجانب الأمني في الكثير من المرات، لكننا في المقابل نجحنا في توفير سكن لائق للملايين من المغاربة، وبالنظر إلى مستوى التنمية في المغرب فذلك تحدي حقيقي". إنها سياسة الأقل ضررا، حسب ما تراه الأنتروبولوجية غيتة الخياط.
تلك السياسة تعتبرها الباحثة، نماذج حضرية كمدن "ريو دي جانيرو"، "ميكسيكو" و"جوهانسبورغ"، وأيضا نمطا من التنمية لا مفر منه. وتتساءل: "لماذا إذن علينا إخراج المغرب من المنظومة". لكن مع ذلك فهي ترى أن "المقاربة الفلسفية للمدينة"، على المدى الطويل، يمكن أن تكون مفتاحا للأزمة.
معماريون، مخططون حضريون، مخططون للمناظر الطبيعية، متخصصون في علم النفس وفي علم الاجتماع، عليهم كلهم الالتفاف حول طاولة مشاورات من أجل التفكير في تنمية حضرية أفضل. وهو ما حاولت الحكومة تفعيله، من خلال خلق وزارة متخصصة في سياسة المدينة، منفصلة عن وزارة التخطيط العمراني المعروفة. لكن وعلى المدى القصير، وبما أن الأحياء المهمشة لا تزال منتشرة، لماذا لا يتم ربطها بمركز المدينة والأحياء الراقية؟ "ميديلين"، التي تعد ثاني أكبر المدن بكلومبيا، تنهج هذه السياسة؛ فمنذ سنة 2003 إلى 2012، تم إحداث خطي نقل، إضافة إلى سلالم متحركة عملاقة، تربط الأحياء الفقيرة، بما فيها تلك الأكثر عنفا، بمركز المدينة. وبدورهما دشنتا كل من "كاراكاس" و"ريو ديجانيرو" خط ميترو كهربائي للغرض ذاته.
في المغرب، يبدو أن الاختيار يسير في اتجاه خلق مدن تحترم التنوع الاجتماعي، حيث تطلب الدولة من المنعشين العقاريين تشييد السكن الاجتماعي، المتوسط والراقي، في مساحة واحدة مشتركة. لكن في الوقت الحالي، تعاني المدن الجديدة من نفس مشاكل الأحياء الفقيرة، وذلك بسبب ضعف البنية التحتية، التي تجعل من عملية تسويق وبيع هذه المساكن صعبة. في المقابل، تنمو المساكن الراقية، المحروسة والمراقبة، كالفطر.
الجريمة والانحراف.. بالأرقام
هل انفجار معدلات الجريمة التي يشكو منها المغاربة عادة، واقع موجود؟ بالنسبة لوزارة الداخلية، لا يشكو البلد من "انفلات أمني"، حيث أكد محمد حصاد، أن "الإحصاءات الخاصة بكل أنواع الجريمة مطمْئنة (...)، حيث تظهر تراجعا بين 4 و12 في المائة (حسب معدل الجريمة) خلال سنة 2015". في المقابل، فإن الجرائم المرتبطة بالعنف، تعرف ارتفاعا، انتقلت فيه الجرائم التي تخص السلامة الجسدية، من 23 ألف 706 حالات سنة 2004، إلى 37 ألفا و653 حالة سنة 2011.
بالتأكيد، تعكس نسبة الجرائم التي لم تنفذ، الأداء الجيد للشرطة. لكن للأسف لا يتم تسجيل كل هذه الجرائم. وفي سنة 2012، ذكر مقال لمجلة "Police"، أن الأرقام التي يتوفر عليها الأمن الوطني، لا تخص سوى الملفات (...) التي تمت معالجتها (...)، في حين أن هناك مخالفات وجرائم تحدث كل يوم، ولا تصل أنباؤها للأمن الوطني". في هذا الصدد قبِـل الأمن الوطني تزويدنا بأرقام تخص الجريمة في كل حي من أحياء الدار البيضاء، لكن دون تحديد نوعية الجريمة.
يعرف حي "أنفا" الراقي أكبر عدد من الاعتقالات، في حين أن باقي الأحياء الشعبية، تقل النسبة بثلاثة أضعاف (باستثناء حي مولاي رشيد). يؤكد لنا مسير شركة استشارات أمنية، أن "السارقين ليسوا أغبياء، فهم لا يقصدون أماكن لا يوجد فيها ما يسرق". ويقر بدوره، مع ذلك، بوجود "بعض المناطق الرمادية" بنواحي الدار البيضاء.
ابتسموا لكاميرات المراقبة !
أطلق الملك محمد السادس، يوم 25 يناير الماضي، نظام مراقبة بالفيديو فريد من نوعه بالدار البيضاء. ورغم أن العديد من المدن المغربية مجهزة بكاميرات مراقبة، مثل طنجة وفاس، من أجل تسهيل عملية تدخل الشرطة في الحالات التي تستدعي ذلك، ومساعدتهم في التحقيقات، إلا أن النظام الذي تم استقدامه للعاصمة الاقتصادية يطمح لأكثر من ذلك؛ حيث من المنتظر (إلى غاية منتصف 2017)، جلب أكثر من 760 كاميرا، و220 كلم من الألياف البصرية، بغية تسهيل عمل العملاء المتواجدين في أكثر من 24 مركز متخصص في مراقبة المدينة.
يهدف النظام الأمني الجديد إلى تتبع المجرمين والجرائم، ولكن أيضا إلى تنظيم عمليات السير. "هذا ما نطلق عليه المدن الآمنة، فالأمر لا يتعلق فقط بإيقاف المجرمين، ولكن أيضا من أجل تسهيل عدد من الخدمات، كجمع القمامة، حيث يتم إرسال إشارة للمركز إذا كانت سلة قمامة عمومية مملوءة مثلا"، يوضح لنا جون بيير بوطروي، الرجل الثاني سابقا في شركة الأمن "G4S" في المغرب، والذي يتابع هذه التطورات عن كثب.
هذا النظام الذي تم إطلاقه بإشراف واهتمام كبيرين من طرف الملك، لن يعمل فقط على "التعرف على هوية الأشخاص والسيارات المشبوهة"، بل أيضا على إنشاء "قاعدة بيانات خاصة بالتعرف على الوجوه". إنها ليست مدينة الدار البيضاء في سنة 1984؟ وحسب بيير بولطوي، "إذا لم تكن تخفي شيئا، فليس من المفترض أن تخاف".
الحل.. مدن جديدة؟
في إجابة له عن سؤال "تيلكيل" حول خطر الانغلاق، لوح الوزير نبيل بن عبد الله بحل "المدن الجديدة"، وقال: "يهدف برنامج تهيئة هذه المدن، إلى إسكان قاطني دور الصفيح جنبا إلى جنب مع سكان الأحياء المتوسطة، وكذلك الراقية". لكن، في الوقت الحالي، يبدو هذا الحل أبعد من أن يكون حلا جذريا، بدليل مدينة تامسنا، قرب الرباط، التي لا تزال تسعى جاهدة من أجل جذب مشترين.
لكن هشام أونسي، رئيس مجموعة الفوائد الاقتصادية للمدينة يشير بأصابع الاتهام للدولة، بأنها "لا تشجع المستثمرين بما يكفي ليأتوا إليها". ويبرر قوله أن "المستثمرين كانوا أول من آمن بحلم تامسنا وما جاورها، وباستثمارات كبيرة، لكن البنية التحتية غير مكتملة. إذ ينقص مدارس خاصة، مراكز تجارية، مراكز شرطة..الخ". المستثمرون ينتظرون انتقال السكان إلى المنطقة من أجل الاستثمار بها، لكن لا أحد من هؤلاء يريد اقتناء منزل قبل تشييد طريق وتوفير وسائل نقل عمومية. في انتظار ذلك، قرر القضاء هدم بعض المباني الغير المطابقة للمعايير، حتى قبل أن يقطنها أصحابها.