أكد مولاي الحسن الداكي، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة، اليوم الاثنين، بقصر المؤتمرات بالصخيرات، أن حرص المغرب على الارتقاء بشأن الطفولة ليس وليد اليوم، بل تؤكده العديد من المواقف التاريخية للمملكة المغربية، على رأسها المبادرة الملكية المتمثلة في انتقال الملك الراحل، الحسن الثاني، شخصيا، إلى نيويورك، من أجل التوقيع على الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، التي تمت المصادقة عليها، لاحقا، سنة 1993.
وتابع الداكي في كلمة ألقاها، خلال الجلسة الافتتاحية للمناظرة الوطنية المنظمة حول "حماية الأطفال في تماس مع القانون، الواقع والآفاق"، الممتدة على مدار يومي 19 و21 يونيو 2023، أن دستور 2011 نص على أن الدولة تسعى لتوفير الحماية القانونية، والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال، بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية، مضيفا أنه، على غراره، أولت كل القوانين الوطنية، عبر المراجعات التشريعية المتوالية، في العقدين الأخيرين، أهمية خاصة لتعزيز حماية حقوق الطفل ومراكزه القانونية، سواء من خلال مقتضيات مدونة الأسرة، أو مجموعة القانون الجنائي، أو قانون المسطرة الجنائية وغيره؛ مما يشكل ترسانة تشريعية حامية وواقية للطفل ينبغي حرص الجميع على تفعيلها، والتطبيق السليم لمقتضياتها، بالتقصي الدائم والفهم الصحيح لغايات المشرع منها.
وتنفيذا لالتزاماتها الوطنية والدولية، يقول الداكي، حرصت المملكة على تعزيز هذه الحماية التشريعية، مرورا بعدة محطات تاريخية؛ حيث انخرطت في تفعيل مقتضيات خطة العمل الدولية: "عالم جدير بأطفاله"، من خلال خطة العمل الوطنية للطفولة (2006-2015)، التي مكنت من تحقيق مجموعة من المكتسبات المهمة، على مستوى ملاءمة التشريعات الوطنية والنهوض بحقوق الطفل الأساسية.
ولفت إلى أنه، مواصلة لهذه الدينامية، عمل المغرب أيضا، على وضع السياسة العمومية المندمجة للطفولة بالمغرب (2015-2025)، التي تعتبر بمثابة ميثاق وطني انخرط فيه الجميع، من أجل إدراج بعد حماية الطفولة، في مختلف السياسات والبرامج العمومية، مركزيا ومحليا، ولرفع تحدي إعمال المبادئ والحقوق المضمنة في الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، والتحديات المرتبطة بأهداف التنمية المستدامة، في أفق سنة 2030.
كما أفاد الداكي بأن أجهزة العدالة انخرطت، بدورها، في هذا المسار، من خلال مخطط للإصلاح استهدف تعزيز الحماية القضائية للطفل، وانطلق ذلك، سنة 2005، بإحداث خلايا التكفل بالنساء والأطفال بالمحاكم، من أجل تسهيل ولوج الأطفال للعدالة وضمان حمايتهم، ومواكبة ذلك باعتماد دليل للمعايير النموذجية للتكفل بالنساء والأطفال، في مختلف الوضعيات التي تسوقهم أمام العدالة، إضافة إلى إحداث لجن محلية وجهوية بالمحاكم تسهر على التنسيق مع مختلف القطاعات الحكومية وغير الحكومية المعنية بحماية الأطفال، وهو ما يكرس التوجه إلى تبني مفهوم العدالة الصديقة للأطفال، في تماس مع القانون، مهما كانت مراكزهم القانونية، سواء كانوا في وضعية صعبة، أو مهملين، أو متخلى عنهم، أو في خلاف مع القانون، أو ضحايا للجريمة، أو شهود عليها، فتكفل أنظمة العدالة حمايتهم من التمييز، وتراعي خصوصية أوضاعهم، وتضمن مشاركتهم والأخذ بآرائهم في كل الإجراءات التي تهمهم، وهو ما تأكد أيضا، من خلال عدة توصيات جاء بها الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة، في سبيل تعزيز الحماية القانونية لضحايا الجريمة، لاسيما الأطفال، وتعزيز حماية الأحداث الموجودين في نزاع مع القانون، أو في وضعية صعبة.
وذكر بأن العناية والاهتمام بالأطفال ورعاية مصالحهم يتخذ أبعادا متعددة تتطلب تدخل الفاعلين، كل حسب اختصاصاته، انسجاما مع المقتضيات الدستورية للمملكة، التي تؤسس لمبدأ الفصل بين السلط، في إطار من الانسجام والتعاون. لذا، يكون على السياسات العمومية أن تفسح المجال لبلورة خطط عمل مندمجة تروم توفير خدمات متنوعة للأطفال، تبعا لوضعهم واحتياجاتهم، مع رفع مستوى التنسيق بين مختلف المتدخلين، لضمان انسجام تلك الخطط، من جهة، وضمان شمولية والتقائية الخدمات، من جهة أخرى، مع وضع مؤشرات دقيقة وواضحة لقياس نجاعتها.
ومن هذا المنطلق، يؤكد الداكي، أولت السياسة الجنائية لبلادنا أهمية بالغة لقضايا الطفولة، وجعلتها ضمن أولوياتها الإستراتيجية، مكرسة بذلك البعد الحمائي للأطفال جميعا، بغض النظر عن وضعياتهم، مشيرا إلى أنه، في هذا الإطار، بادرت رئاسة النيابة العامة إلى اتخاذ عدة إجراءات، سواء على مستوى البناء المؤسساتي، أو على مستوى تنفيذ السياسة الجنائية الخاصة بحماية حقوق الطفل، من أجل ضمان التفعيل السليم للمقتضيات القانونية الحمائية الواردة في التشريع الوطني، وتكريس المعايير الدولية المتعارف عليها في هذا الشأن.
وأوضح أنها خصصت ضمن هياكلها التدبيرية قطبا يختص بتتبع قضايا الأسرة والفئات الهشة، عموما، وقضايا الطفولة، بوجه خاص، إن على مستوى تعزيز الولوج للحماية القضائية، وفق المعايير النموذجية، أو على مستوى الرصد وتجميع الإحصائيات والمعطيات ذات الصلة، أو على مستوى ضمان تعزيز القدرات، ومواصلة التحسيس، وتأطير النقاش بين قضاة النيابة العامة وشركائها.
وتابع أن خلايا التكفل بالأطفال والنساء بمختلف النيابات العامة بمحاكم المملكة، والتي تشرف عليها رئاسة النيابة العامة، تعتبر آلية فعالة لتيسير ولوج الأطفال إلى العدالة، وتعكس رقيا في تعاطي المؤسسة القضائية مع هذه الفئة؛ حيث يسهر أعضاء النيابات العامة، إلى جانب باقي مكونات هذه الخلايا، على استقبال الأطفال الوافدين عليها، في حرص شديد على تقديم ما تتطلبه أوضاعهم من دعم ومساعدة ومرافقة واستحضار للبعد الاجتماعي والإنساني.
كما تعمل النيابة العامة على تفعيل دورها التنسيقي مع مختلف المتدخلين من قطاعات حكومية وغير حكومية، عبر اللجن المحلية والجهوية للتكفل بالنساء والأطفال، بما يضمن تكفلا فعالا وناجعا يتلاءم وخصوصية وضعية الطفل، في تماس مع القانون واحتياجاته.
ومن أجل تحقيق أكبر قدر من النجاعة في تطبيق القوانين ذات الصلة بحقوق الأطفال، بادرت رئاسة النيابة العامة إلى توجيه العديد من الدوريات إلى النيابات العامة، بمختلف محاكم المملكة، تحثهم فيها على تعزيز الحماية القانونية للأطفال من كل أنواع العنف والاستغلال وإساءة المعاملة، وكل ما من شأنه إهدار كرامة الطفل، وفقا لما ينص عليه القانون الوطني، مع الحرص على التشخيص القانوني السليم لوضعياتهم، وعلى تقصي مصلحتهم الفضلى، والتطبيق الصارم للقانون، في مواجهة كل من يرتكب أفعالا جرمية في حقهم، لضمان عدم إفلاتهم من العقاب.
وتابع أن رئاسة النيابة العامة تعتمد نهج الانفتاح على مختلف الأوراش الوطنية الداعمة لحقوق الأطفال؛ حيث انخرطت في عدة مبادرات؛ منها الحملة الإفريقية: "من أجل مدن بدون أطفال في وضعية الشارع"، تحت رعاية الملك محمد السادس، والرئاسة الفعلية للأميرة للا مريم، المعلن عنها بمدينة مراكش، بتاريخ 24 نونبر 2018، والتي عبأت مختلف الفاعلين لانتشال الأطفال من الشارع.
كما انخرطت، حسب الداكي، في "الخطة الوطنية لحماية الأطفال من الاستغلال في التسول"، منذ 04 دجنبر 2019، بشراكة مع وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة.
وفي نفس السياق، أعدت رئاسة النيابة العامة خطة مندمجة انخرط فيها كافة المتدخلين المعنيين، من أجل الحد من زواج القاصر، والتصدي لأسبابه، استجابة لغاية المشرع الذي حدد سن الزواج للفتى والفتاة، على حد سواء، في 18 سنة كاملة، من منطلق التسليم بأن الزواج دون هذه السن مساس بحقوق الطفل، وعرقلة لنموه وتنشئته.
واستمرارا في السعي المشترك لحماية الطفولة، يقول الداكي، قادت رئاسة النيابة العامة استشارة وطنية حول التكفل بالأطفال المهاجرين غير المرفقين، والتي أفضت إلى إعداد خطة عمل مشتركة لتطوير الخدمات وتجويدها.
واعتبر الداكي أنه لازال أمام المغرب طريق مليء بالتحديات والصعاب للوصول بأطفاله إلى مستوى يحقق الغايات والمقاصد السامية، المتمثلة في منع كل الأفعال والممارسات الماسة بسلامتهم، مضيفا أن آليات الحماية المتاحة تسائلنا عن مدى احترام المعايير المتعارف عليها للتكفل بالأطفال؛ حيث يُطرح التساؤل، مثلا، عن ضرورة تصنيف الأطفال المودعين، متى علمنا أن مراكز حماية الطفولة تضم، في آن واحد، الأطفال المخالفين للقانون والأطفال في وضعية صعبة، بل إن هؤلاء يشكلون نسبة 65 في المائة، مقابل 35 في المائة من الأطفال في وضعية مخالفة للقانون.
وأضاف أنه من جهة أخرى، مازالت الإحصائيات بالمحاكم تسجل حالات متعددة من قضايا العنف الموجه ضد الطفل، كما ترصد لنا أعدادا مهمة من الأطفال الذين يتورطون في جرائم تتسم، في بعض الأحيان، بالخطورة، كما لازالت تطالعنا الأرقام المقلقة للأطفال في وضعية صعبة، أو في وضعية الشارع المعرضين لمظاهر متعددة من العنف والاستغلال، الأمر الذي ينبغي معه إحاطة هذه الفئات بمزيد من الاهتمام، على مستوى منظومة العدالة، لضمان أنجع السبل الكفيلة بحمايتهم، وفتح أفق الإدماج أمامهم، مستدركا أن إنقاذ الأطفال في تماس مع القانون وتوفير الحماية الشاملة لهم، لا يقتصر على الحماية القانونية والقضائية فحسب، وإنما تتسع دائرته بالضرورة، لتشمل منظومة الحماية الاجتماعية، كما أن هذه الحماية لا تقف عند مسار التكفل القضائي بهم، بل تنصرف إلى جهود الرعاية اللاحقة والمواكبة الوثيقة، لضمان إعادة إدماجهم في المجتمع، كأفراد صالحين.