الدولة والشعب والتطبيع!

تيل كيل عربي

بقلم: محمد بابا حيدة

يقول أحد أساتذة القانون الدولي والعلاقات الدولية بالمدرسة العليا للإدارة "لا يمكنك أن تحتسي قهوة مع الدولة". وهو يقصد أن الدولة مفهوم معقد، لا أحد يستطيع الجزم بأنه يعرف بالتحديد ما ومن هي الدولة. لكن يمكن لأستاذ القانون في السنة الأولى من سلك الإجازة أن يختصر عليك الطريق السهل، ويخبرك بأن الدولة هي المجال الجغرافي، والنظام السياسي، والمجتمع.

الدولة كيان بلا مشاعر، لا يؤمن سوى بالمصالح، وحتى إن عبرت دولة ما عن تشبثها بـ"مبادئ" معينة، فإنها لا تفعل ذلك سوى للدفاع عن مصالحها التي تتماشى مع تلك "المبادئ"، فالدول المهددة بخطر الانفصال غالباً ما تجدها تدافع عن "مبدأ" الوحدة والسيادة الوطنية في علاقاتها مع الدول الأخرى، ولأن "الدول لا تملك أصدقاء دائمين ولا أعداء دائمين، وإنما مصالح دائمة" كما يقول هنري بالميرستون، أشهر رئيس وزراء بريطاني في القرن 19، فإن الدولة "الذكية" هي التي تستطيع قراءة اتجاهات ميزان القوى، وتغير حلفاءها، تبعا لذلك، باستمرار.

خذ على سبيل المثال التطور والتحول الدراماتيكي الذي شهدته العلاقات بين بريطانيا و الإمبراطورية العثمانية بين القرنين 16 و19، حيث كانت بريطانيا في القىن 16 (الضعيفة والمنبوذة أوروبيا) تعتمد بشكل شبه كلي على التعاون والدعم الذي تقدمه الإمبراطورية العثمانية (المتحكمة في معظم آسيا أوروبا وشمال أفريقيا)، لنجد أن بريطانيا بدأت تتوسع وتأخذ أراضي عثمانية بل وتتدخل بشكل كبير في تفاصيل الحكم العثماني في القرن 19.

الدول قد تلجأ إلى ريط علاقات مع كيانات أو دول، حسب تقديراتها ومصالحها الاستراتيجية، بناءً على قراءتها لموازين القوى، بما يضمن تموقعها بشكل يتماشى ورؤيتها.

لكن الشعوب تختلف في بنيتها وتصوراتها عن الدول، لأن الشعب كيانات بشرية لها مشاعر، وهويات، وعقيدة، وانتماء، ولا تحركها المصالح غالباً، وإنما المبادئ والمشاعر، ولهذا تجد، في بعض الأحيان، أن توجهات الشعوب، تعارض توجهات دولها، وهذا حدث في التاريخ الإسلامي، في واقعة "صلح الحديبية"، حيث كان النبي محمد (ص)، بصفته قائدا للدولة، يرى أن المصلحة الاستراتيجية تقتضي مهادنة قريش وحلفائها، بينما بعض صحابته، ومنهم عمر بن الخطاب، كانوا يرون في ذلك "انصياعاً وتنازلا".

وهذا التناقض الحاصل أحياناً بين تصور الدولة وتصور الشعب أمر حيوي وضروري لتقوية مواقف الدولة ومصالح الشعوب، وهو ما يشير إليه عالم الاجتماع الراحل علي الوردي في كتابه "مهزلة العقل البشري" عند حديثه عن الدينامية التي يخلقها الاختلاف داخل المجتمع والدولة. لأن الخطر على الدولة وعلى المجتمع، يكمن في تطبيع الشعب مع أجندات الدول الأخرى داخل بلده، لأن ذلك عندما يحصل يصبح الشعب أكثر ميلا لأجندات تلك الدول فتتفشى فيه، مع مرور الوقت"القابلية للاستعمار" كما تحدث عنها المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي، في كتابه "شروط النهضة".