حذرت زينب العدوي، الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، يوم الأربعاء 15 يناير، من أن تفاقم أزمة نقص المياه يتطلب استثمارات ضخمة وعاجلة تبلغ 143 مليار درهم، وذلك خلال الفترة من 2020 إلى 2027.
هذه الاستثمارات تأتي ضمن إطار البرنامج الوطني لتأمين التزويد بالماء الصالح للشرب والمياه المخصصة للري.
من إهمال إلى استثمار
في هذا السياق تواصل موقع "تيلكيل عربي" مع محمد جليل، خبير مناخ وموارد مائية، يوم السبت 25 من الشهر الجاري، الذي أشار إلى أنه من المهم العودة إلى الماضي لفهم التحديات الحالية. حيث أن المغرب بعد الاستقلال لم يكن يعطي أي أهمية للمياه العادمة، وكان التركيز الأكبر على المياه السطحية من خلال بناء السدود والمنشآت الكبرى وجر القنوات الكبيرة. وبعد مرور عدة عقود، لم يُعطَ الموضوع أي اهتمام سواء في معالجة المياه العادمة أو في إعادة استخدامها في الفلاحة، لأن المشكلة لم تكن مطروحة في ذلك الوقت.
وأوضح الخبير أنه حتى سنوات التسعينات والألفية الجديدة لم نكن قد استفقنا بعد، وكانت الموارد المائية في المغرب تتطور بوتيرتين مختلفتين. كانت هناك المياه السطحية الطبيعية والمياه الجوفية التي واصلنا تعبئتها وبناء منشآتها، لكننا تأخرنا بشكل كبير في التعامل مع المياه العادمة، حيث كنا نعتبرها آفة لا مورداً مائياً، وهذه النظرة كانت خاطئة للغاية، فالمياه العادمة ليست مجرد نفايات بل هي مورد يجب معالجته واستخدامه.
ذكر الخبير أن الإشكالية الثانية تكمن في أن الحديث عن المياه العادمة يرتبط بالجماعات الترابية، حيث إنها، وفقاً للقانون، هي المسؤولة عن جمع المياه العادمة وتصريفها. وبما أن قدرات هذه الجماعات كانت محدودة، فقد واجهت العديد من المشاكل والتحديات في تصريف المياه. كانت الأولوية لديها هي إنشاء شبكات صرف المياه العادمة، دون التفكير في مصير هذه المياه في النهاية وكيفية تثمينها واستثمارها في الفلاحة.
وفيما يتعلق بالإشكالية الثالثة المرتبطة بالموضوع، قال الخبير إن هناك مشكلة في التدبير ترتبط بما تم ذكره سابقاً. عندما بدأنا في تدبير قنوات المياه العادمة، ظهرت العديد من المشاكل. في النهاية، تم إنشاء وكالات جماعية تحت إشراف وزارة الداخلية، ثم انتقلنا إلى التدبير المفوض، ولكننا استمررنا في مواجهة المشاكل التقنية والمالية.
وأضاف جليل، أن السؤال الذي يظل قائماً هو كيفية إعادة استخدام المياه العادمة وكيفية إنشاء محطات لمعالجتها. فعلاً، هناك نقص كبير في هذه المحطات، حيث نجد أن العديد من الدواوير والمدن تفتقر إليها. وبالتالي، يوجد نقص كبير على المستوى التكنولوجي وكذلك في الحكامة والتدبير.
وأفاد الخبير أنه فيما يخص الإشكالية الرابعة، كان لدينا دائماً تصور أن المياه العادمة غير مهمة. وإذا ما تم صرفها، كنا نصرفها في الأودية والبحار ونعتبرها نفايات، إلى غير ذلك. الآن، مع التغيرات المناخية ومع شح المياه ومشاكل ندرة المياه، أصبحنا ندرك أن هذه المياه قد تكون مهمة جداً.
ونوه إلى أن البرنامج الوطني للتطهير السائل بدأ، وأصبحنا نفكر، بشراكة مع وزارة الداخلية ووزارة البيئة، في تطوير محطات معالجة المياه العادمة. لم نفكر في إعادة استخدامها إلا خلال العقدين الأخيرين، وخاصة في العقد الأخير، حيث تم التفكير في هذه المياه كموارد مهمة وغير تقليدية يمكن استخدامها أولاً في سقي المساحات الخضراء داخل الحواضر والبلدات، واستعمالها أيضاً في المشاتل والغابات، وفي الغولف أيضاً. وبدأنا نفكر أيضاً في استعمالها كمورد مهم جداً بالنسبة للفلاحة.
الإطار القانوني
وفي رده على سؤالنا حول كيفية تحديث الإطار القانوني والتشريعي المتعلق باستخدام المياه العادمة المعالجة في الفلاحة لتحقيق أقصى استفادة منها، قال الخبير إن أول خطوة هي ضرورة إلزام الجماعات الترابية بوضع محطات لمعالجة المياه العادمة، وذلك في إطار شراكات بين الجهات والأقاليم.
وأضاف أن هذه خطوة مهمة للغاية، بالإضافة إلى أهمية فصل شبكة الصرف الصحي للمياه العادمة عن شبكة الصرف الصحي لمياه الأمطار، بحيث يكون هناك نظام يفصل بين المياه العادمة والمياه الناتجة عن الأمطار.
وأوضح الخبير أن المسألة الثانية تتعلق بالقطاع الخاص، حيث يجب أن تكون هناك إلزامية وفقاً للقوانين البيئية. يجب على القطاع الخاص الذي يصرف كميات كبيرة من المياه العادمة أن يتولى المعالجة القبلية لتلك المياه، بحيث يمكن استخدامها مباشرة من قبل المعنيين أو من قبل الجماعة المعنية. وأشار إلى أن بعض المناطق الصناعية في المغرب يمكن أن تتعاون في إنشاء محطات معالجة للمياه العادمة، حيث يمكن للمنطقة الصناعية استخدام المياه المعالجة، بينما يتم استخدام الفائض منها في الفلاحة في إطار شراكة بين القطاعين
واستطرد قائلا إن المسألة الثالثة تتعلق بمجموعة من القطاعات التي تستخدم كميات كبيرة من المياه، مثل الفنادق، حيث يمكن أن يصبح من الضروري استخدام المياه العادمة في سقي الحدائق، على سبيل المثال. وأوضح أن الحجم الأكبر من هذه المياه يتم تزويده من قبل الجماعات المحلية.
وأضاف أنه يوجد فاعل آخر يجب أن يشارك في هذا الدور، وهو الشركة الجهوية متعددة الخدمات. ينبغي أن تضطلع هذه الشركات بهذه المهمة على مستوى الجهة، نظراً لما تمتلكه من قدرات وخبرة تقنية تمكنها من تنفيذ هذا المشروع. وعندما يتم معالجة المياه العادمة، تدخل في الملك العام المائي، ولذلك من الضروري أن تكون هناك شراكة بينها وبين وكالة الحوض المائي والمستعملين الفلاحيين، لتزويدهم بهذه المياه بأسعار رمزية، بهدف ضمان استدامة هذا النظام.
الإجهاد المائي
وفي جوابه على سؤال حول الإجراءات المقترحة لضمان توفير معايير دقيقة لجودة المياه العادمة المعالجة لاستخدامها في الفلاحة بشكل آمن وفعال، أشار الخبير إلى أن مواجهة الإجهاد المائي تتطلب أولاً رفع مستوى الوعي. وأضاف أنه بناءً على الدراسات التي أجراها المغرب ودول أخرى، من أجل مكافحة التغيرات المناخية والانخراط في مسار التنمية المستدامة، يعتبر العنصر البشري من أهم العوامل. يجب أن يكون هناك وعي مشترك، حيث في معادلة المياه يجب أن نأخذ في الاعتبار العرض والطلب، مع ضرورة عقلنة الطلب وتدبيره بشكل فعال.
وأوضح الخبير أنه عندما نتحدث عن تدبير عقلنة العرض، يجب أن نميز بين نوعين من العرض: العرض التقليدي الطبيعي والعرض غير التقليدي المتمثل في مياه البحر والمياه العادمة. وأشار إلى أنه في ظل تأثير ندرة المياه وشحها بسبب التغيرات المناخية، أصبح العرض الطبيعي التقليدي يزداد انكماشًا، مما يجعل من الضروري البحث عن بدائل لتلبية احتياجاتنا المائية.
وأضاف أن العرض غير التقليدي، رغم أهميته، يأتي بتكلفة كبيرة تتعلق بالطاقة والعمليات المعقدة لمعالجة المياه. وبالتالي، يجب أن نكون على وعي تام بأن الموارد المائية الحالية التي نتوفر عليها هي موارد شحيحة وليست غير محدودة، مما يستدعي الحفاظ عليها وتقدير قيمتها بشكل أكبر.
ونوه الخبير إلى أنه من ناحية الطلب، يجب التفكير في عدة أمور. أولاً، يتعين أن يكون هناك اختيار حقيقي وعقلاني لأنواع الفلاحة، مع ضرورة تظافر جهود الدولة والقطاع الخاص. يجب أن نعي أن هناك مناطق معينة لا يمكننا فيها زراعة بعض المنتجات الفلاحية التي تستهلك المياه بشكل مفرط، مما يؤدي إلى تبذيرها.
وتابع قائلاً إن ثانيًا، يجب أن يكون هناك ترشيد حقيقي للمياه على مستوى الضيعة الفلاحية. هذا الترشيد يجب أن يتم من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة مثل التنقيط الموضعي والسقي العقلاني، بحيث يتم توجيه المياه بشكل دقيق لمنع تبذيرها أو تسربها تحت الأرض أو ضياعها فوق سطح الأرض.
واسترسل قائلاً: "مسألة أخرى هي أنه يجب محاربة ضياع الماء داخل الشبكة، حيث يمكن أن يصل الفقد إلى 30 أو 35 بالمائة. على سبيل المثال، من مليون متر مكعب، قد يذهب 350 ألف متر مكعب فقط بسبب الرشح. لذلك، لابد من الاستثمار في التكنولوجيا والآلات الضرورية في القنوات لتجنب هدر المياه".
واختتم حديثه قائلاً: كل هذا يرتبط بخيط ناظم يتمثل في الوعي، حيث يجب أن يكون هناك يقظة على مستوى العرض والطلب. سواء بالنسبة للفلاحين، كباراً أو صغاراً، في القطاع الخاص أو العام، لا بد من التعاون والتكامل بينهم. يجب أن يدرك الجميع أن ضياع هذه الثروة المائية ليس خيارًا يمكن قبوله، خصوصاً للأجيال القادمة.