شهدت الدورة العاشرة لمعرض الفرس بالجديدة، أول أمس (السبت)، نهائي الدورة الثانية من جائزة محمد السادس الكبرى للفروسية التقليدية (التبوريدة)، ولفت فيها عزيز الفاتحي الأنظار، بأن فازت سربته بالرتبة الأولى، وهو تتويج يأتي بعد تصنيفه بطل المغرب في ماي الماضي بمناسبة جائزة الحسن الثاني. وللفاتحي جمهور واسع، يلاحقه أينما حل وارتحل من أجل "سيلفي"، ويهتز دفعة واحدة هاتفا باسمه في المدرجات، فما سر ذلك، هو الذي يعتبر هذا كله مجرد "بلية"؟
"أقسم لكم بالله العلي العظيم، أن الذي بدل اللعب، أو اهتز، أو دار شي حاجة ماهياش، حتى أجعله فرجة للناس، وأجعله يندم أمامهم فيغادر المكان عن طيب خاطر. بخصوص طلقة البارود، لكي أكون واضحا، اللي ماقرصش اليوم والله سأمسخه امرأة، وديك النفخة اللي فيه سأجلس أرضا من أجلها وأجعله مايسواش بصلة"، يقول عزيز الفاتحي، متوعدا، 14 "باردي" (فارس)، يشكلون "سربته" ولن يتولى اليوم قيادتهم في الحلبة، إذ ترك الفرصة "لخيلفته" ليختبر قدراته.
وبدا "شيخ" أو "علامة" السربة، وهو من مواليد 1986 بأولاد علي في سهل تادلة بإقليم بني ملال، بتلك الصرامة، أمس (الأحد)، داخل الخيمة الخاصة بمجموعته "الحربية"، التي كان أفرادها جاهزين لامتطاء خيولهم للمشاركة في استعراض للتبوريدة، كلن مرتقبا أن يحضره الأمير ولي العهد مولاي الحسن، في اختتام فعاليات معرض الفرس بالجديدة، والذي يشهد أيضا التباري على جائزة محمد السادس الكبرى للتبوريدة، التي فازت بها سربة الفاتحي أول أمس (السبت).
تجسيد للحرب
للوصول إلى عزيز الفاتحي، والجلوس إليه، لابد من كثير من الصبر، فالأمر يشبه اللقاء بشيخ قبيلة في زمن الحروب، يرحب بك الجميع في محيطه بطقوس كرم البادية المغربية، ويحرص بدوره على تحيتك، وطمأنتك أنك ستنال مرادك، لكن لابد أن تتركه ليفرغ من مهام كبيرة، تمثلت بعد زوال أمس (الأحد)، في الإشراف على التفاصيل الدقيقة لسربته قبل إرسالهم إلى "المحرك"، بداية بالصلاة بعد وجبة الغذاء، ثم "تسريج" الخيول، وارتداء الفرسان لباسهم الرسمي، ثم وقفة للترغيب والترهيب، فقراءة الفاتحة والمعوذتين والدعاء.
ويقول عزيز الفاتحي، بشأن هذه الصرامة والسهر على الانضباط رغم أن خرجة الفرسان المرتقبة، تظل استعراضية، ولا يتعلق الأمر بمباراة، أن "المقدم أو العلامة، يجب أن يقوم بمهامه مهما كانت الظروف والسياقات، فالفروسية التقليدية، تظل في نهاية المطاف تجسيدا للحرب، لذلك أحرص على أن يكونوا رجالا، فنحن نركب الخيل في التبوريدة، باش نحمرو الوجه، ماشي باش نخسروها".
ولأن "المقدم"، ارتأى لعارض صحي ألا يركب حصانه اليوم، حرص على توجيه أوامر صارمة للفرسان بخصوص علاقتهم مع خليفته، فقال "اليوم باقا المباراة بالنسبة إلي. فزنا أمس ولكن لم يتغير شيء، ولكي أكون واضحا، الخليفة هو المقدم ديالكم اليوم، خليوه إدير اللي بغا، يفصل المحرك ويدير ميزانو، وماعليكم غير تبعوه. والله إرحم الوالدين ويستر عليكم، فوق الخيل سدو فامكم. وراه إبقا شي واحد إلاحظ فالخليفة، غادي ندمو ملي ترجعو الخيمة".
ولعل اقتناع الفاتحي، بأن الأمر يظل حربا في نهاية المطاف، وحرصه على ترسيخ تلك العقيدة لدى فرسانه، هي التي تقف وراء تفوقه وتتويجه بجائزة الحسن الثاني في حلبة دار السلام بالرباط (البطولة الوطنية وقيمتها 500 ألف درهم للميدالية الذهبية)، ثم جائزة محمد السادس بحلبة معرض الفرس، فقد كانت سربته، طيلة المباراة النهائية، أول أمس (السبت)، الوحيدة التي وحدت "القرص"، فخرجت من بنادقها طلقة موحدة، خلال الجولات الثلاث من المباراة.
وللوصول إلى تلك "الطلقة" الموحدة، بوصفها العنصر الحاسم، بعد "الهدة" و"التشويرة"، ويقصد بهما التطابق الحركي الجماعي والسير بانضباط، ووحدة حركة البنادق واللباس والسروج، لابد، حسب الفاتحي "من صفاء القلوب، فلكي تكون محاربا جيدا (باردي)، لابد أن يكون قلبك جياشا بالحب للفرقة، أما إذا كنت حسودا وفيك غيرة أو حقد، فلن تتوفق، إن أعضاء السربة لابد أن يكونوا رجلا واحدا وبقلب واحد".
أما شروط "تامقدميت"، فهي في اعتقاد الفاتحي، ليست التفوق المالي، إذ يقول "لقد رأيتم في المباراة النهائية، كيف أن بعض شيوخ السربات كانوا وراء خسارتها، إذ خرجت الطلقة من كل البنادق موحدة إلا بندقيتهم، بالنسبة إلي يجب أن تتغير قوانين اللعبة لتقضي بإقصاء مباشر وفوري لكل سربة لم ينجح قائدها في إطلاق باروده، ففي الحرب قديما، يكون في عداد الموتى، لذلك يجب أن تكون مقدم حقيقي أو انسحب".
ويقول الفاتحي جازما: "المقدم من اللازم أن يكون فنانا: كايعرف إركب، كايلبس، كايقرص، حينها نسميك مقدما. ماشي غي يكون عندك فلوس ونطلعوك مقدم، خص تكون باردي دك الساعات حكم عليا باش بغيتي"، قبل أن يضيف متأسفا: "أنا لست صاحب مال، ووالدي رحمه الله لم يكن فارسا، كما كان جدي، لكن للأسف ما لاحظته في عدد من المباريات، أن بعض الأثرياء، ينصبون أنفسهم على رأس السربات لأنهم يمونون، وفي المحرك يتبين أنهم ليسوا 'باردية'، والخيول التي يركبونها يصل سعرها إلى 40 مليون سنتيم، وفي النهاية يظهر أنهم لا يستحقونها".
"البلية" و"البركة"
يبرر الفاتحي، مطالبته بمزيد من التشدد في قوانين مباريات الفروسية التقليدية، بعامل الجمهور الكبير المولوع بهذا التراث، ويتوارث الناس حبه في المغرب ابنا عن أب، وأبا عن جد، فيقول "لقد لاحظتم كيف أن الجمهور حج بالمئات إلى المباراة، ويضاهي مستواه في أسرار اللعبة، كفاءة لجنة التحكيم وخبرتها، إذ ما لم تكن الهدة والتشويرة والطلقة في مستوى المثالية، لا يهتز ولا يعيرك اهتماما وحتى التصفيق يحجم عنه".
ولا يتوقف الجمهور عند التصفيق والصياح باسم المقدم، بل يصل الأمر حد السعي وراءه، كما هو الحال بالنسبة إلى نجوم مختلف الرياضات، لذلك عد عزيز الفاتحي، بعد تتويجه الجديد، نجما لاحقه الجميع، وبطلا في زمن "السيلفي"، إذ عاين "تيل كيل – عربي"، محاصرة خيمته من قبل العشرات من المحبين، بما في ذلك فتيات حسناوات بلباس حضري، أصروا على التقاط صورة معه لمشاركتها في حساباتهم بشبكة التواصل الاجتماعي.
وبالنسبة إلى الفاتحي، يشير سعي الجمهور وراء "سيلفي" معه، إلى أنه "ماشي ساهل باش تكون بطل في التبوريدة، ودليل على كلامي السابق، بأن الفروسية التقليدية لها جمهور يريد رؤية "باردية" و"مقاديم" حقيقيين ويمتعونه، خصوصا بـ"الطلقة القاطعة".
وأضاف القاتحي: "لا أخفيكم أنني فوجئت بأن أفراد الجمهور الذين يعرفونك ويعرفون مستواك وقدراتك، يسافرون من مخنلف مناطق المغرب، إلى كل المسابقات التي تشارك فيها، ويصرون على الوصول إلى خيمتك لتشريفك".
وإذا كانت "التبوريدة" في عقيدة سربة جمعية السلام للفروسية التقليدية ببني ملال "تجسيدا للحرب" إذا تعلق الأمر بالمباريات والإقصائيات المحلية، ثم الإقليمية، فالجهوية والوطنية، فهي في الواقع اليومي للفرسان، "مجرد إدمان (بلية)"، ولا تصل إلى درجة التفرغ لممارستها.
ويقول الفاتحي إن في سربته "موظفين عموميين، وطلبة جامعيين، وفلاحين، وعمالا مقيمين بإيطاليا، لكل مشاغله ومهنته، لكن توحدهم البلية والرغبة في حسن تمثيل جهة بني ملال خنيفرة، والمدرسة الشرقاوية في الفروسية".
أما حكاية المقدم الفاتحي الملقب في منطقته بـجغو، مع هذا الإدمان، فبدأت "في سن السادسة، إذ فتحت عيني على الخيل والتبوريدة، فأدمنت ركوبه، وعندما عاينت التطور المتعلق بالمباريات، صار دعائي مع كل صلاة: يا ربي توصلني لهاد الحلبات، فلم يخيبن، ووفقني، وبعد محاولات كثيرة، وتأسيس فرقة أولى فثانية ثم ثالثة، انتظمنا أخيرا في إطار جمعية السلام للفروسية التقليدية، وبفضل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ومواكبة السلطة الإقليمية، ودعم مختلف الأحباب والأصدقاء، بلغنا هذا المستوى".
وبالنسبة إلى الفاتحي، "الخيل شيء مهم جدا لدى سكان سهل تادلة، والمغاربة كلهم، إنها تراث وتاريخ من الأمجاد تحول إلى هواية ولعبة لها جمهور واسع، وتطورت كثيرا خصوصا بعدما أحدثت البطولة الوطنية وجائزة الحسن الثاني، فبمجرد أن أحدثتها الأميرة الراحلة لالة أمينة، كما زاد اهتمام الناس بالفروسية التقليدية، وساهم ذلك في تجديد هذا التراث والحفاظ عليه".
وإذا كان الفاتحي يقتنع أن الفروسية التقليدية، ليست هواية وإدمانا "سهلا، لأن اكتساب ود حصان مغربي وترويضه ليس هينا، ويتطلب إمكانيات كبيرة وحبا كبيرا وصفاء تاما للقلب"، يقول إن السربة التي يوجد على رأسها هي "نتاج عمل جماعي وتضامني بين كل سكان المنطقة، فهناك من لا يركب الخيول لكنه يصر على امتلاكها تقليدا عائليا، فيضعها رهن إشارتنا، والذين يمونون ليسوا بالضرورة فرسانا معنا. إننا بصدد تراث يجب أن نحافظ عليه في أدق تفاصيله".
وللفروسية التقليدية ارتباط بالمجال الروحاني والديني وبالزوايا الصوفية، إذ علاوة على شرط الوضوء والصلاة وقراءة الفاتحة والمعوذتين قبل الركوب، لاحظ "تيلكيل – عربي" في خيمة سربة الفاتحي، إيمانا بـ"البركة"، ويجسدها على نحو ما، شاب صغير الحجم، يدعى "محسن"، ويحظى بتقدير الجميع، فرسانا ومساعديهم ومرافقين وضيوف، وحرص المقدم على أن يكلفه بمهمة تنسيق عملية الدعاء الجماعي قبل التوجه إلى "المحرك"، وبلغ الأمر ببعض الفرسان درجة تقبيل رأسه.
ويقول الفاتحي لـ"تيلكيل – عربي"، بخصوص ذلك الفتى، إن "داك الدري شريف، ولو رأيتموه صغيرا، فهو عنده بركته، لذلك نحن نقدر فيه ما فيه، ونعتقد ببركته لذلك أحرص أن تكون الفاتحة والدعاء بحضوره"، وتفاديا لأي التباس، يضيف: "البركة تظل ديال الله، وهناك أولياء الله الصالحين، ونحن نؤمن بهم، دون أن يعني ذلك أننا نعبدهم، إنما لهم بركتهم، وحتى والديك يجب أن توقرهم لأنهم ببركتهم".