في رأس نهاية السنة الجديدة، غزت الشبكات الاجتماعية صور العنف الشديد الذي تعرض له ذلك الشاب الذي ألقي عليه القبض وهو يرتدي ملابس النساء.. هذه الحادثة فتحت كوة للإطلالة على جماعة المغاربة الذين لا يحسون بأنفسهم في الجسد الذي فرضت عليهم الطبيعة، وكل المصاعب وأصناف العنف التي يتعرضون لها في مجتمع قاس لا يتسامح أبدا مع من يخرج عن المعايير الذي حددها للذكر والأنثى. "تيل كيل" غاصت في العالم السري للمتحولين لتكشف معاناتهم وأحلامهم.
لو كان لشفيق الاختيار لاختار أن يكون أنثى... أن يكون له القد الفاتن للمغنية هيفاء وهبي. ويحاول هذا الشاب إعادة بناء نفسه منذ الاعتداء الذي تعرض له بمراكش والتشهير الذي كان هدفا له في ليلة رأس السنة، لما أوقفته الشرطة وهو يرتدي لباس امرأة. في بيته الستائر مسدلة، والأحذية ذات الكعوب العالية مخبأة في الدولاب، وبالكاد تهمس كلمات "متحول" و"مثلي". يقول وهو يخفي رأسه وما تيسر من ملامح وجهه تحت كاسكيط سوداء، "أحاول ما أمكن ألا أثير الانتباه".
شفيق: أحاول ما أمكن ألا أثير الانتباه
كانت أول مرة ارتدى فيها فستانا وتزَيّن، قبل خمس سنوات، بعد استقالته من عمله. فورا، أحس ابن خريبكة هذا، الذي كان يختلس أحمر الشفاه من أدوات تجميل أمه، بنفسه لما تحول إلى "صابرينا"، بديله الأنثوي. ويجري التحول وفقا لطقس محدد ودقيق: تشغيل موسيقى الراي بأعلى صوت بالشقة، إخضاع الباروكة للبروشينغ، حصة الماكياج أمام المرآة العريضة، الاختيار الصعب للفستان الملائم... بعدها يرتدي شفيق فوق كل هذا رداء عريضا، ويخبئ الباروكة والحذاء ذا الكعب العالي في حقيبة رياضية، ثم ينطلق. "أتوقف في مكان خال، أضع الباروكة، لمسات على مكياجي، ثم أقصد السهرة". عندما تكون فوق كعبها العالي تحس صابرينا أنها "أكثر حرية.. أكثر راحة" من شفيق، و"لا حدود لها"، فضلا عن كونها تجذب النظرات.. نظرات الرجال والنساء على حد سواء.
ذكور بالمؤنث.. إناث بالمذكر
إن تجارب المتحولين وحكاياتهم متعددة ومتنوعة، ولكن اكتشاف الأمر غالبا ما يكون صدفة في الطفولة المبكرة. إذ استوعبت "نفرتيتي" (20 عاما) أنها ليست مثل الأولاد الآخرين مبكرا جدا. "لما كنت طفلا، كان سلوكي استثنائيا ومختلفا"، قالت من أنقرة حيث تعيش منذ خمسة أشهر، مضيفة "مع مرور الوقت أخذت الأمور تنضج جنسيا. انتبهت أولا إلى انني أميل إلى الذكور.. كنت في الـ13.. ثم أخذت الرغبة في أن أكون أنثى تغمرني أكثر فاكثر. وما أن أجدني وحيدة، أتزين وارتدي الفساتين، وهذا يغمرني بإحساس غريب، ولكني كنت أستحسنه، لأنني أصير نفسي.. إنها لحظات سعادتي".
على المنوال ذاته، تقول "سولا" (29 عاما) "كنت دائما في سلام مع نفسي وفي حرب مع محيطي. إذ منذ نعومة أظافري، تيقنت أنني لا أريد ان أعيش حياة الذكر التي تفرض علي.. كنت أنثوية ومازلت، ولا يمكن لأي أحد تغيير هذا الوضع، ولا حتى الشتائم والاعتداءات والتهديدات التي أتلقي كل يوم تقريبا".
سولا: منذ نعومة أظافري، تيقنت أنني لا أريد ان أعيش حياة الذكر التي تفرض علي
ويبدو أن تحديد هوية النوع (genre) تتطور هي الأخرى مع الزمن. فإذا كان بعض الأشخاص المتحولين يعرفون أنفسهم كذكر أو أنثى، يرى آخرون أن هويتهم تتجاوز هذه الثنائية. هذه هي حالة "المهدي" (اسم مستعار)، الذي ينتمي إلى هذا الجيل الجديد الذي ينشد التحرر من معايير النوع ومكافحة الأفكار المسبقة التي تصاحبه. ويعتبر المهدي نفسه "ثنائيا"، ويقول "إسوة بالجنس، فالنوع يمكن أن يكون سلسا، ويتغير ويتطور".
ازداد المهدي في "جسد أنثى" ولكنه كان دائما "يرفض المعايير المرتبطة بالأنثى"، واكتشف على الأنترنيت أنه "ليس مجبرا على الاختيار بين أن يكون أنثى أو ذكر". كان المهدي يرتدي الحجاب إلى أن بلغ 23 عاما. بعدها نزع الحجاب وقص شعره، وأخذ يرتدي ملابس تصلح للجنسين، ولم يتسرب الشك قط إلى قناعاته منذ تلك اللحظة. وإذا كان في الماضي يخفي صدره تحت ضمادة – وهي طريقة خطيرة قد تتسب في مشاكل التنفس- فإن "المهدي" اليوم لا يرغب في حمل أي علامة. "أعرف نفسي كما أحب. الآخرون هم الذين يرون في جسدي هيئة أنثى"(...).
المهدي: أعرف نفسي كما أحب. الآخرون هم الذين يرون في جسدي هيئة أنثى
الخروج إلى الأضواء
اكتشفت أسرة شفيق ميله لارتداء ملابس النساء على شاشات الهواتف والحواسيب. "عندما شاهدت الفيديو، فقدت أمي الوعي، فلا أحد في عائلتي كان يعلم بأنني متحول" يقول هذا الشاب الذي وجد فجأة كل معلوماته الشخصية مكشوفة في الشبكات الاجتماعية. منذ ذلك الحادث لم يعد له أي تواصل مع أسرته. "انتظر أن يهدأ كل هذا البوز قبل أن أعود إليهم.. لا أريد أن أجرحهم"، قال. والواقع أن الخروج إلى العلن لما يكون قسريا كما هو الحال مع شفيق، غالبا ما يكون مؤلما جدا. فرد الفعل الأول للأقارب هو الرفض والإقصاء. "المرة الأولى التي خرجت فيها مرتديا سروال جين ضيق وحذاء طويلا مع الماكياج، قال لي أقاربي إنني أشبه عاهرة"، يتذكر أيوب (18 عاما)(...).
شفيق: المرة الأولى التي خرجت فيها مرتديا سروال جين ضيق وحذاء طويلا مع الماكياج، قال لي أقاربي إنني أشبه عاهرة
بعض المتحولين والمتحولات يحكم عليهم بالعيش عيشة الدكتور جيكل وميستر هايد. يقول أمين (25 عاما) "أعيش مع والدتي لوحدنا، وأخفي عنها هويتي المتحولة"، ويضيف ابن تازة هذا "أحاول أن أجد تسوية مقبولة بين ما أنا عليه حقا وما يريد الآخرون رؤيته في.. لما أكون وسط الناس، أتصرف كرجل، ولا أترك أي شيء يتسرب عن هويتي الأخرى.. وأعترف أنني أجيد هذا التصرف.. ويحدث أن أرتدي تحت ردائي الرجالي ملابس داخلية نسائية مسروقة ولا ينتبه أحد للأمر.. هذا يسليني حقا". ويعيش حياته، التي تجري على إيقاع تغيير الملابس والأسماء، "فيما يشبه الحرية".
الإهانات والاعتداءات
في بلد مثل المغرب يعرض الإقرار بالاختلاف المرء لكثير من المصاعب. فبعد الرفض الأسري، يجد المتحلون أنفسهم في مواجهة عنف وتمييز منظمين على كل مستويات المجتمع. من فاس إلى الدار البيضاء مرورا بمراكش، تكشف الفيديوهات العديدة التي تظهر بين الفينة والأخرى على الشبكات الاجتماعية هذا العنف الذي يصدر عن الغالب الأعم من هذا المجتمع المغربي.
يبدأ العنف من الوسط المدرسي، وتتذكر "نفرتيتي"مسارها الدراسي الفوضوي، إذ اضطرت إلى تغيير الإعدادية والثانوية أربع مرات، وانتهى بها الأمر إلى التخلي عن الدارسة قبل حصولها على الباكالوريا. "حركاتي، ومشيتي وحتى طريقة كلامي كانت تغيظ الكثير من اقراني الذين لم يكونوا يترددون في الإشارة إليها، ولكن لم أكن ألقي لكل ذلك بالا.. ما كان يصدمني حقا هو رد فعل المدرسين، كانوا يقولون لي باستمرار بأنه علي أن أكون رجلا. بل إن مدرس التربية الإسلامية مثلا كان يمنعني من حضور حصته"، تقول هذه الشابة.
نفرتيتي: ما كان يصدمني حقا هو رد فعل المدرسين، كانوا يقولون لي باستمرار بأنه علي أن أكون رجلا
الأمر ذاته يحدث في الجامعة. إذ اضطرت "دينا"، التي كانت تتابع دراستها في شعبة السوسيولوجيا، إلى التوقف عن الدراسة بسبب "أنثويتها". "بعد سنتين، قررت التخلي عن متابعة الدراسة للحصول على الإجازة.. كان الوضع فوق طاقتي.. لم أكن أضع الماكياج ولا كنت أرتدي ما أرغب فيه، ومع ذلك كنت أتعرض للعنف يوميا، يلقون علي الأحجار، وأتعرض للشتائم.. لم أفهم قط سبب كل هذا العنف، فأنا لم أؤذ أحدا" تقول هذه الشابة ذات العشرين ربيعا والتي تسعى اليوم للحصول على تكوين في التجميل (...) وبينما كانت تتحدث إلينا عبر الهاتف رمى في وجهها أحد المارة شتيمة "زامل"، فاضطرت "دينا" إلى قطع المكالمة والرد عليه. بعد بضع دقائق عاودت الاتصال لتقول بنبرة يائسة "إنه فقط معاد آخر للمتحولين، وهم كثير في المغرب".
من جهتها، اضطرت "سولا" إلى مغادرة التدريس بسبب هويتها المتحولة، بعد أن كانت تُدرِس في مدرسة ابتدائية بمدينة تارودانت. "لم أعد أتحمل القيل والقال ونظرات زملائي القاسية. آنذاك كنت مع ذلك ألزم نفسي بالتصرف مثل الذكور، ولكن لم أفلح على ما يبدو" تقول قبل أن تضيف "كلما تحركت في الفضاء العام، أتعرض للشتم والسب.. لا أتحرك لوحدي في الشارع. أنا خائفة(...)".
على السرير أيضا، تظل الأفكار المسبقة قوية يصعب التخلص منها. وإذا كان بعض المتحولين يعيشون حياة جنسية سعيدة، فإن الكثير منهم يتحدثون عن علاقات حميمية شديدة التعقيد، بين التشييء والفنتزمات."إنها نفس القصة: يتغزل بي الرجال في السهرة، وفي اليوم الموالي، يرفضون تحمل مسؤولياتهم ويقولون إنهم كانوا يعتقدون أني امرأة، وبأن هذه أول مرة وآخر مرة يمارسون فيها الجنس مع رجل.. إننا نعيش حقا في مجتمع شيزوفريني"، يقول شفيق الذي يتردد على البارات السرية للمثليين(...).
الملاذ في العالم الافتراضي
أمام العنف الكبير والإقصاء اللذان يمارسهما المجتمع المغربي في حق المتحولين جنسيا، يجد هؤلاء ملاذا في الإنترنيت، فهم يعثرون فيه على الكلمات التي تعبر عن حالتهم، ولكن بالخصوص يجدون إحساسا بالانتماء إلى جماعة. "رد فعلي الأول كان البحث في العالم الافتراضي عن أشخاص 'يشبهونني'.. ووجدت لديهم كل الدعم" تقول "سولا". من جانبها، لاذت "دينا" بالشبكات الاجتماعية لأنها "أعطتني الأمل والقوة، لأنني التقيت بأشخاص آخرين مثلي، وهذا أراحني كثيرا".
دينا: الشبكات الاجتماعية أعطتني الأمل والقوة، لأنني التقيت بأشخاص آخرين مثلي، وهذا أراحني كثيرا
وفي بعض الأحيان ينتقل اللقاء من العالم الافتراضي إلى الواقع. وتقول "سولا" التي تعيش في أكادير "نلتقي في الأماكن العمومة، بل وننظم حفلات ساهرة في بعض الأحيان. ولكن هذا محفوف بالكثير من المخاطر، لأنه يمكن أن نُعتقل من طرف الشرطة ويتم التنكيل بنا.. لهذا تظل الشبكات الاجتماعية الفضاءات الوحيدة الآمنة بالنسبة إلينا.. كأن لي حياتين: حياتي التي أحلم بها في العالم الافتراضي، وحياتي الجهنمية التي أعيشها في الواقع"(...).
أنجاز: كوثر ودغيري وصوفي لامبيرس
ترجمة تيل كيل عربي بتصرف