رغم أن المغاربة كانوا ينتظرون بفارغ الصبر خبر تعويض الوزراء المقالين، وإنهاء حالة الترقب، إلا أن الحدث لم يأخذ نصيبه من الاهتمام، مقابل اهتمام المجتمع بحدث رافقه في نفس اليوم، وهو المتعلق بالموافقة الملكية على ممارسة المرأة لمهنة "عدل"، مما أثار ردود أفعال واسعة بين مرحب ومستنكر وساخر متهكم.
لا بد من التأكيد أولا على أن القرار- وإن كنا لا نعلم بعد تفاصيل ما جاء به ـ كان خطوة جريئة وشجاعة تستحق كل تقدير، هي خطوة أخرى في مسار تحقيق المساواة بين الرجال والنساء، وإلغاء كل الامتيازات والفوارق بينهما في المجال العام.
قد لا يكون القرار الملكي غريبا، بحكم الاختيار الحداثي المعبر عنه في مناسبات متعددة، لكن المثير فيما تضمنه بلاغ الديوان الملكي، هو موافقة المجلس العلمي على القرار، إفتاءه بجواز ذلك، بناء على قواعد المذهب المالكي حسب لغة البيان.
مصدر الغرابة هو مخالفة المجلس العلمي الأعلى فيما ذهب إليه لما عليه جمهور الفقهاء في المسألة، ذلك أن مهنة "العدل" تندرج ضمن الشهادة، كما نصت على ذلك خطة العدالة المفصلة في قانون 16.03، ومعلوم أن المذاهب الفقهية الأربعة المعتمدة لا تجيز شهادة النساء منفردة في النكاح، وجمهورهم على عدم جوازها ولو مع رجل، لأنهم يرون أن عقد النكاح مما لا تختص المرأة بالاطلاع عليه، فيكتفى به بشهادة الرجال لقوة ضبطهم وعدم تعرضهم للنسيان والضلال.
لا زال البعض لا يريد أن يصدق تسلط العقلية الذكورية على مجمل الفقه الإسلامي المتعلق بأحكام المرأة، المرأة ناقصة عقل ليس لها من الكفاءة والقدرة ما يمكنها من مزاحمة الرجل والتنافس معه بشرف حول المناصب والوظائف، فما دام الرجل قادرا على سد المكان فلا حاجة للمرأة إلا فيما كانت مختصة به، استجاب الفقه لواقع سياسي واجتماعي أفشل بوادر الثورة التي انطلقت مع بدايات الإسلام، وأعاد المرأة لواقع متخلف وبئيس.
خطوة المجلس العلمي الأعلى بتجاوز كل هذا الموروث الفقهي تستحق أيضا كل تنويه، لكن ما أرجوه هو أن يكون هذا التجاوز منهجا فكريا وعقلية قائمة ومستمرة، وليس استجابة لرغبة سياسية، أملي أن يتم التعامل مع كل النوازل والتحديات بنفس المنهج القائم على مراعاة التغيرات التي عرفتها المجتمع، وعدم رفع ورقة الفقه عائقا أمام كل تطور وتقدم، وهو ما يحيلنا للسؤال عن مصير قضايا أخرى، لا زالت تنتظر دورها في الاجتهاد، بحكم ما عرفته عللها وسياقاتها من تغيرات، لكن عددا وازنا من الفقهاء لا زال ممانعا أمام كل هذه المحاولات، رأينا ذلك في قضايا عديدة متعلقة بالإرث والنسب وغيرهما من الإشكالات الاجتماعية ذاي السياق المعاصر.
الأجمل من ذلك، أن المجلس العلمي الأعلى أحال في حديثه عن الثوابت إلى قواعد المذهب المالكي، وليس إلى ما نص عليه المذهب، لأنه يدرك أن المالكية على مذهب الجمهور في عدم قبول شهادة المرأة في النكاح، وقد قال مالك رحمه الله بنفسه: (لا يقبل النساء مع رجل ولا بدونه في قصاص ، ولا حد ، ولا نكاح ، ولا طلاق ، ولا رجعة ، ولا عتق ، ولا نسب ، ولا ولاء ، ولا إحصان ) ، فقد تجاوز القرار والفتوى ما نص عليه إمام المذهب لما عليه القواعد، وهو مسلك مطلوب وجميل بل صار من الضرورة، حتى لا نبقى أسرى لأحكام استجابت لواقع غير واقع اليوم، لكنني مرة أخرى أحمل الأمل في أن يكون ذلك منهجية عامة، ومسلكا دائما، وألا ترفع لافتة منصوص المذهب في قضايا أخرى تحتاج منا أيضا إلى إعمال القواعد بما تحمل من مرونة وتمنح من سعة اختيار، ولا يمكن معها التوقف عند فقه أنتج قبل قرون عديدة.
ليست موجات السخرية التي قابل بها البعض هذا القرار بمهمة، فلا زالت للعقلية الذكورية سيطرتها على ذهنيات الناس ووعيهم، ولكن سلطة القانون قادرة على تغيير الثقافات والعقليات، كم من قرار ووجه قبل اليوم بالمعارضة والتهكم، لكنه أصبح اليوم واقعا مألوفا، ولا يلقى أي استغراب أو استهجان من كل الأطراف والفئات، إلى عهد قريب كان خروج المرأة للتعليم جريمة ومنكرا لا يغتفر، وكان التفكير في تعيين المرأة قاضية مثيرا للسخرية والاستهزاء.
وأخيرا، بلاغ الديوان الملكي برر هذه النقلة بما بلغته المرأة المغربية من تكوين وتثقيف علمي رفيع، وما أبانت عنه من أهلية وكفاءة واقتدار في توليها لمختلف المناصب السامية.. هي نفسها الأسباب التي يجب أن تدفعنا للجرأة في تناول مواضيع أخرى، تهم المرأة المغربية، وتحقق لها المساواة مع الرجل، وقد انتفت كل الأسباب التي تجعلنا جامدين أمام أحكام أنتجت في سياقات مختلفة ومغايرة.