رحل إلى دار البقاء، صباح الجمعة 29 ماي، المقاوم والمعارض ورجل الدولة الكبير، الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، عن سن 96 عاما، مخلفا وراءه تاريخا حافلا بالمواقف المشرفة، في مسار يشهد الجميع أنه كان " استثنائيا".
لم يكن اليوسفي فحسب الوزير الأول لحكومة "التناوب التوافقي" التي طبعت نهاية عهد الملك الراحل الحسن الثاني وبداية عهد الملك محمد السادس، فهو من القادة الكبار للمقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، وصانع كثير من أمجادها، وأحد قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، قبل أن الإعلان عن المؤتمر الاستثنائي وميلاد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ويصبح الرجل الثاني، بعد الكاتب الأول عبد الرحيم بوعبيد، قبل أن يخلفه بعد رحيله، ويقود مسلسلا عسيرا من المعارضة والحوار مع الحكم، توج بتأسيس حكومة التناوب التوافقي.
ما بين ميلاده في 8 مارس 1924 ووفاته يوم 29 ماي 2020، يمتد مسار طويل لرجل طبع تاريخ المغرب بالقوة وبالفعل، ترتسم كثير من تفاصيله في مذكراته "أحاديث في ما جرى- شذرات من سيرتي كما رويتها لبودرقة".
خروج عن الصمت عبر "تيلكيل"
كان الفقيد عبد الرحمان اليوسفي قد خرج، عبر "تيلكيل" عن امتناعه عن محاورة وسائل الإعلام، ليخوض في حصيلة حكومة التناوب التي ترأسها بين عهدي الملكين الحسن الثاني ومحمد السادس، وأيضا بالنسبة إلى علاقته مع الملك الراحل وخلفه.
في ذلك الحوار، الذي نشر في صيف 2019، عاد الكاتب الأول السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى لحظة إعلان وفاة الملك الراحل وتوقيع البيعة لخلفه الملك محمد السادس، قبل أن يفصل في علاقته مع الملكين، خصوصا مع الملك الحالي الذي أوقف تجربة حكومة التناوب في 2002.
فعن يوم 23 يوليوز 1999، حين توفي الملك الراحل الحسن الثاني وتم توقيع البيعة لولي العهد الأمير سيدي محمد بن الحسن، قال الراحل اليوسفي "كان يوما امتحن فيه المغرب مؤسساتيا وشعبيا وإنسانيا. فُقدان ملك عظيم، من حجم الحسن الثاني، ومبايعة ملك واعد بالأمل، من قيمة الملك محمد السادس، شكل لحظة ليعيد العالم اكتشاف معدن المغاربة".
وأضاف "لقد نجح المغرب والمغاربة في ذلك الامتحان الصعب، من خلال شكل البيعة وحجم الجنازة، ثم سلاسة انتقال الملك. تلك هي الدروس التي بقيت خالدة أمام التاريخ".
وعن إعادة تعيينه وزيرا أول وتكليف الملك محمد السادس بتشكيل الحكومة الجديدة في 26 شتنبر 2000، قال في الحوار ذاته "كان تجديدا للمشروع والعهد الذي التزمنا به مع والده رحمه الله. وكان اللقاء ترجمة لما سبق وقلته في أحد حواراتي مع الصحافة الفرنسية 'الملك الشاب سيفاجؤكم إيجابيا'، وكذلك كان، فجلالته ملك إصلاحي كبير".
وعن أحسن وأصعب قرارين اتخذتهما، أجاب اليوسفي بأن "التاريخ هو الذي يحكم على التجارب السياسية والتدبيرية". وزاد "الأساسي بالنسبة إلي أننا قمنا بما قمنا به بنزاهة ومسؤولية وراحة ضمير، مستحضرين دوما خدمة وطننا ودعم مشروع جلالة الملك الإصلاحي. لكنني أعتبر ترسيم الشفافية في الصفقات وإصلاح نظام المالية العمومية والتقليص من البطالة ومن ثقل الدين الخارجي وفاتورة الدين الداخلي، وتحويل الخوصصة إلى آلية للتنمية سمحت بخلق صندوق الحسن الثاني للتنمية الذي مول المشاريع المهيكلة الكبرى ببلادنا خلال 20 سنة الماضية، ووضع الأسس للحماية الاجتماعية والحماية الصحية، ومأسسة الحوار الاجتماعي، هي من الملفات الصعبة التي نجحنا في حكومة التناوب في تدبيرها بشكل موفق. لقد خلقنا الأمل في الإصلاح، مثلما صالحنا المغاربة ومؤسسات الدولة مع منظومة حقوق الإنسان في كافة أبعادها"، مشددا على أن "التاريخ هو الذي يحكم على التجارب السياسية والتدبيرية".
وبالنسبة إلى كيفية كان التواصل بينه وبين الملك محمد السادس طيلة مدة ولايته وكيفية تجربة ممارسة السلطة إلى جانب الملك، رد اليوسفي أن "التواصل كان مؤسساتيا منتظما، وكان التواصل إنسانيا رفيعا وساميا ومحترما". وأضاف "الأسلوب هو الرجل، وجلالة الملك هيأ بشكل مثالي لممارسة دوره الدستوري والوطني والتاريخي بشكل رفيع، يترجم فعليا رسوخ تقاليد ممارسة مسؤولية السلطة بالمؤسسة الملكية بالمغرب".
وعن شخصية الملك محمد السادس، قال الراحل "هو ملك القرن 21، هذا أمر لا شك فيه أبدا. وجلالته، الممتلك لرؤية واضحة ورصينة ومتكاملة، حول المشروع المجتمعي الإصلاحي والحداثي والمؤسساتي للمغرب اليوم، يكتب في التاريخ بصمته الخاصة كملك يُعتبر قائدا وطنيا وإقليميا وقاريا بما تفرضه تحديات القرن 21"، وخلص على هذا المستوى إلى أن "الملك محمد السادس هو ملك القرن 21، هذا أمر لا شك فيه أبدا".
وبالنسبة إلى أقوى لحظة في ولايته وأصعب لحظاته، قال "أقوى لحظة حين زارني جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله، وأنا بالمستشفى بالرباط، كانت لحظة مثقلة بحمولات إنسانية وسياسية كبيرة بالنسبة إلي. وأصعب لحظة يوم وفاة جلالته أسابيع قليلة بعد تلك الزيارة. كانت لحظة امتحان دقيقة، بالنسبة لي، سياسيا وإنسانيا، فنحن ننتمي إلى نفس الجيل الوطني والسياسي".
وحول علاقته بالملك محمد السادس بعد 2002، أكد أنها "بقيت علاقة تقدير واحترام كبيرين"، وأوضح "جلالته يشملني دوما بعطفه ورعايته وأنا ممنون له عاليا. وتشرفت باستقباله لي في مناسبات عامة وخاصة، وسعدت بزيارته لي أثناء اجتيازي محنة المرض بالمستشفى، فيما أعتبر إشراف جلالته شخصيا على تدشين شارع يحمل اسمي بمدينتي طنجة أرفع وسام من جلالته لي".
مذكرات طال انتظارها
بعد مسيرة طويلة في الحياة السياسية، وكشاهد على فترات متقلبة من تاريخ المغرب، وبين ترحاله من معارض للسلطة إلى وزير بين كنفها، باح عبد الرحمان اليوسفي في مذكراته، التي نشرت في عيد ميلاده الرابع والتسعين (8 مارس 2018)، بفصول حياته، منذ بداياته الأولى في بيته بطنجة، وصولا إلى اعتزاله السياسة وتواريه عن الأنظار.
وتوزعت فصول المذكرات بين طفولة اليوسفي بمدينة طنجة، ومراهقته وانخراطه في المقاومة المغربية في أربعينيات القرن الماضي. بالإضافة إلى فصول يحكيها الزعيم السياسي عن المهدي بنبركة وعن معارضته السياسية والانقلاب على الحكم، وكذا علاقته بالجزائر وما يعرفه عن اغتيال عمر بنجلون، فضلا عن كواليس تقلده السلطة في ما عرف بالتناوب، الذي ختم به اليوسفي مساره السياسي في سنة 2003.
وكانت "تيلكيل" قد حصلت على مذكرات اليوسفي المعنونة بـ "أحاديث في ما جرى"، قبل نشرها بين دفتي كتاب، واطلعت على أهم المحطات التي رسمت تاريخ المغرب السياسي، من خلال ما عاشه الرجل وحكاه لامبارك (عباس) بودرقة الذي عايش اليوسفي وجمع أهم رسائله وحواراته.
يقول بودرقة في مقدمة الكتاب أنه طالما حاول إقناع اليوسفي بتدوين سيرته، خصوصا أدواره ومواقفه في الحركة الوطنية، وفي المقاومة وفي جيش التحرير، وكذلك في "ما شهدته بلادنا من أحداث جسام بعد استقلالها". ويضيف كاتب المذكرات أن اليوسفي كان يقابل إلحاحه بصمت، أو بابتسامة عريضة "تحمل كل المعاني والتأويلات".
رفيق الزعيم أكد ما سبق أن قاله الأخضر الإبراهيمي في حق اليوسفي بأنه "يلوي لسانه سبع مرات قبل أن يتكلم". لهذا يقول بودرقة، إنه شرع في تجميع وتوثيق ما يتصل من إنتاجات اليوسفي، وهي "غزيرة ومتنوعة موصولة، بماضيها ومنفتحة على مستقبلها". وتتمحور في الفكر والسياسة، على "مستوى حقوق الإنسان والإصلاحات السياسية والدستورية، وصولا إلى تحمل المسؤوليات الأولى في قيادة حزبه وعلى مستوى رئاسة السلطة التنفيذية".
بعد الانتهاء من التجميع الذي بلغ فيه بودرقة 1000 صفحة من التراث الفكري والسياسي للرجل، على مدى 20 سنة، استغل الكاتب عودة اليوسفي من سفره من اليونان في سنة 2017، وسلمه هذه الأوراق، "فشعر اليوسفي حينها، بأهمية المادة"، يضيف بودرقة.
في مقدمة المذكرات، يستحضر الكاتب ما قام به اليوسفي حين دحض بعض المغالطات التي كتبت عنه؛ من بينها ما حكاه عبد الكريم الخطيب الذي قال في وقت سابق إن اليوسفي حظي بإقامة خاصة إثر اعتقاله على خلفية أحداث 1963، بخلاف رفاقه الذين سيقوا إلى معتقلات درب مولاي الشريف.
اليوسفي كذّب ما قاله الخطيب عنه، وأضاف أنه كان كبقية المعتقلين، تعرضوا للتعذيب ورأى وجه جلاّديه بدار "المقري"، قبل نقلهم إلى سجن القنيطرة ليحكم عليه بـ15 سنة سجنا.
من جهة أخرى، وارتباطا بتقلد زمام السلطة في فترة التناوب لا سيما بعد وفاة الحسن الثاني، يحكي اليوسفي في مذكراته عن كواليس توليه الحكومة، وكيف تلقى خبر إعفائه من منصب الوزير الأول ليعين بدلا عنه إدريس جطو.
حسرة على "مغرب آخر"
في مذكراته، عاد عبد الرحمان اليوسفي إلى فترات هامة من تاريخ المغرب سياسيا واجتماعيا؛ من أهمها ما عايشه مع بعض الشخصيات السياسية التي طبعت مغرب ما قبل الاستقلال وما بعده؛ كعلال الفاسي، المهدي بن بركة، الفقيه البصري، وكذلك ولي العهد آنذاك مولاي الحسن.
شهادة اليوسفي، ليست بالطبع كبقية مئات من خبروا المراحل الأولى لاستقلال المغرب، اليوسفي كان من قيادات المقاومة الذين أسسوا حزب الاستقلال، بحيث أنشأ أول فرع للحزب بمدينة طنجة.
يتذكر اليوسفي في مذكراته أن "الخلافات" داخل حزب الاستقلال كانت منذ الأربعينيات، إذ أن القاعدة التنظيمية لحزب الاستقلال شهدت "تحولا نوعيا، بحيث انضم لصفوفه العمال والصناع والتجار والصغار"، لكن ورغم ذلك، ظلت القيادة "تميل إلى الانغلاق على نفسها"، وفق تعبير اليوسفي.
الوحيد من القيادات الحزبية، آنذاك، الذي لم يكن ينظر إلى تلك التحولات بعين الرضا هو علال الفاسي، بحسب ما يتذكر اليوسفي. الأخير يضيف أن سلطات الحماية عندما نفت محمد الخامس، حاولت فصل القيادات الوطنية عن الشعب. ولحسن الحظ، يقول اليوسفي، فالقيادات الشابة والجديدة التي أفرزتها التنظيمات الجديدة لحزب الاستقلال، هي التي أطلقت شرارة المقاومة. هكذا "أصحبت القواعد هي التي تقود الحزب وليس القيادة المحافظة"، بحسب المذكرات.
اعتبر اليوسفي أن القيادة المحافظة لحزب لاستقلال، مع البدايات الأولى لاستقلال المغرب، لم تكن "تفطن إلى ضرورة تطوير المؤسسات وتجديدها، لكن العناصر الشابة، كالمهدي بن بركة والفقيه البصري وغيرهما حاولوا تصحيح هذا الخطأ، وبدعم معنوي من علال الفاسي". اليوسفي في مذكراته يلقي بلومه على القيادة المحافظة (أي أحمد بلافريج، وغيره)، لكونها أغلقت أبواب اللجنة التنفيذية في وجه الوجود الشابة في الحزب.
يضيف اليوسفي أنه بعد هذا الحدث، أي "عدم الانفتاح"، جاءت مبادرة المهدي بن بركة لتأسيس لجنة سياسية مكونة من تلك العناصر الشابة، تروم إعادة تنظيم الحزب بعقد مؤتمرات جهوية، عرفت بالجامعات المستقلة لحزب الاستقلال، أو ما سيعرف بحركة 25 يناير 1959.
بعد شهرين من هذا التاريخ، سيتم تشكيل تنظيم جديد سيحمل اسم الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، بشكل قانوني ويقع مقره بالدار البيضاء، وبقيادة تضم كلا من محمد البصري، المهدي بن بركة، عبد الرحمان اليوسفي، محمد بالمختار والحسين أحجي. اليوسفي يتذكر أن قيادة حزب الاستقلال "المحافظة" رفعت دعوى قضائية ضد هذا التنظيم "اليافع" لاستغلاله نفس تسمية حزب الاستقلال. مما سيضطر رفاق اليوسفي إلى تأسيس "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" في ما بعد.
اليوسفي اعترف في هذه المذكرات، أن تفكيرا عميقا ظل يخالجه طيلة العقود المنصرمة، يخص انشقاق حزب الاستقلال؛ وهو أنه "لو ساعدت الظروف ليتعرف كل من علال الفاسي والمهدي بن بركة على بعضهما، ولو تمكن كل منهما من اكتشاف الآخر، من خلال الحوار والنقاش السياسي والفكري، وبواسطة العمل اليومي والنشاط التنظيمي، لما حصل يوما الانفصال داخل حزب الاستقلال"، بحسب المذكرات.
اليوسفي يذهب أبعد من ذلك ليقول: "لو تمكن كل من الأمير الحسن وعلال الفاسي والمهدي بن بركة ومحمد البصري من بناء جسور التواصل فيما بينهم، والتفكير في تصور بناء مشترك ما بعد الاستقلال، لتمكن المغاربة من تفادي عديد من المنعرجات التي أخرت مسيرتنا، ولعشنا مغربا آخر غير الذي نعيشه".
في "أحاديث في ما جرى"، كشف اليوسفي كيف تم تعيينه كوزير أول في حكومة التناوب التوافقي من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، وكيف أدى قسم القرآن لتحمل مسؤوليته الجديدة، بالإَضافة إلى حديثه عن إعفاء الملك محمد السادس له في سنة 2002.
عن ذلك اليوم يقول اليوسفي: "مع بداية 1998، اتصل بي وزير المالية آنذاك السيد ادريس جطو، وأخبرني أن الملك الحسن الثاني هو الذي كلفه بلقائي، وأنه جاء بعد العرض الذي قدمه جطو للملك حول الأوضاع الاقتصادية الراهنة للمغرب وآفاق المستقبل التي تنتظر بلدنا".
اليوسفي يضيف أن جطو أخبره أن الملك "اضطر لإلغاء مسلسل التناوب الذي أطلق سنة 1994، لإيمانه بأن التناوب الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا مع من كانوا في المعارضة طيلة العقود الماضية، وبالضبط مع شخص عبد الرحمان اليوسفي".
يقول اليوسفي في مذكراته: "طلب مني صاحب الجلالة أن آخذ الوقت الكافي لتشكيل الحكومة وعبر لي عن استعداده للقاء معي كلما دعت الضرورة إلى ذلك. وقبل وداعه ونحن واقفان في مكتبه، اقترح علي جلالته أن نلتزم معا أمام القرآن الكريم الموجود على مكتبه". ويضيف اليوسفي أن الملك تلا قسما حينها "على أن نعمل معا لمصلحة البلاد وأن نقدم الدعم لبعضنا البعض"، فردده بعده.
عن هذا القسم "القرآني" يضيف الزعيم السياسي: "كان هذا القسم بمثابة عهد التزمنا به لخدمة البلاد والعباد، بكل تفان وإخلاص. كان قسما فعليا، بشأن التعاضد سويا لفائدة حاضر ومستقبل المغرب. أما القسم الرسمي بروتوكوليا كما تقتضيه تقاليد التنصيب الرسمي، فقد أديته يوم التنصيب مع كافة الوزراء الجدد".
جيوب المقاومة
وعندما قاد الراحل حكومة التناوب، اعترضت طريقه "جيوب المقاومة"، وفي مذكراته يكشف ما يقصده بهذه الجيوب، وكيف حاولت عرقلة عمل حكومته.
فقد اعتبر اليوسفي أنه من الصعب تصوير هذه الجيوب تصويرا دقيقا، لكن الجميع يدرك أن من تمكن من بناء مصالح أثناء العهود السابقة، أو لا يزال، ويرى في التجديد والتغيير تهديدا لمركزه الاقتصادي أو مركزه السياسي سيكون منخرطا في بنية هذه الجيوب.
وفي مذكرات اليوسفي نقرأ: "الواضح أن المصالح المتراكمة لا بد أن تجعل نوعا من البشر يستفيد من هذا الإرث، فنحن لا نستغرب أن تلك الجيوب موجودة، ولها أثر سياسي ، واشتغلت ووضعت كل العراقيل، لكنها لم تفلح في افشال تجربة التناوب التوافقي".
اليوسفي، ذكر في هذا الصدد بتاريخ وزارة الداخلية في المغرب، وماضيها في تزوير الانتخابات، وقال "إن إدريس البصري كان يهيمن على "أم الوزارات"، التي كانت لها اليد الطولى في تزوير الانتخابات وفي صنع أحزاب إدارية قبل أي استحقاق لتحتل المراتب الأولى فيه".
وأضاف "عندما اقترح علي المرحوم الملك الحسن الثاني، الاحتفاظ بإدريس البصري كوزير للداخلية في حكومة التناوب التوافقي لأن مجلس الأمن كان ينوي إجراء استفتاء في أقاليمنا الجنوبية سنة 1998، ولكونه كان ماسكا بهذا الملف لأزيد من 15 سنة، فضلت أن يكون ضمن الطاقم الحكومي، بدل أن يلتحق بالديوان الملكي ويصبح إذاك في موقع لن يتردد في استغلاله من أجل وضع عراقيل من شأنها تعقيد الاتصال بجلالة الملك، وبالتالي عرقلة النشاط الحكومي".
وزاد متحدثا عن الراحل إدريس البصري: "كان قراري أن بقاءه داخل التشكيلة الحكومية، يمنحنا فرصة أكثر لمواجهة أي محاولة من شأنها التأثير على البرنامج الحكومي، وهذا ما حصل فعلا، بحيث لم يعد يقوم بنفس الدور الأساسي والرئيسي الذي كان يعتقد أنه الوحيد القادر على إنجازه"، مضيفا أنه في الحكومات السابقة لم يكن الوزير الأول يتجرأ على افتتاح أشغال أي مجلس حكومي إلا بعد وصول وزير الداخلية، ونفس الأمر كان ينطبق على باقي المؤسسات والمجالس كالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي كان عضوا فيه، كانوا ينتظرونه بالساعات الى حين وصوله لافتتاح أشغال الجلسة".
وختم حديثه عن البصري قائلا: "رغم التعليمات التي أصدرت إليه من طرف جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله، بعد تعييني وزيرا أولا، بواجب الدعم من أجل إنجاح هذه التجربة، إلا أنه، وكما يقال، الطبع يغلب التطبع".
إعفاء "سري"
بعد وفاة الحسن الثاني، وبمجرد الإعلان عن نتائج الانتخابات التي حصل فيها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على المرتبة الأولى، وأدت إلى تجربة التناوب التوافقي، يتذكر اليوسفي هذه المرحلة ويقول: "التقيت صاحب الجلالة الملك مـحمد السادس، وكان حاضرا أيضا في هذا اللقاء مستشاره المرحوم عبد العزيز مزيان بلفقيه، وعرضت على صاحب الجلالة تقديم استقالتي من الوزارة الأولى، حتى يتمكن من تعيين الوزير الأول الذي سيتولى تدبر المرحلة القادمة، لأن جلالته يعلم رغبتي في إعفاء من الاستمرار في تحمل هذه المسؤولية. غير أن جلالته فضل عدم تقديم الاستقالة حاليا".
ظل اليوسفي على رأس الوزارة الأولى، إلى غاية سنة 2002، وفي 9 أكتوبر من نفس السنة، ترأس الملك مـحمد السادس مجلسا وزاريا بمدينة مراكش، وكان آخر مجلس وزاري لحكومة التناوب التوافقي.
وروى إدريس جطو لكاتب مذكرات اليوسفي، مبارك بودرقة، أنه كان مع عبد الرحمان في قاعة الانتظار بالقصر الملكي، "توجه اليوسفي ليستقبله الملك، وعند خروجه، كان مبتسما كالعادة، سلمت عليه وطلبت منه إذا كان بالإمكان انتظاري للعودة إلى الرباط، كباقي أعضاء الحكومة على متن نفس الطائرة". ويضيف كاتب مذكرات اليوسفي: "أثناء استقبال الملك لليوسفي أخبره بأنه سيعين جطو وزيرا أول".
وعن هذا الإعفاء يتذكر اليوسفي أن الملك قال له: "في العديد من المرات أعربت عن رغبتك في إعفائك من هذه المسؤولية ، نظرا لظروفك الصحية، وقد قررت تعيين ادريس جطو على رأس الوزارة الأولى".
يضيف اليوسفي: "شكرت جلالته على تلبية هذه الرغبة، وأعربت له أن الدستور الحالي (1996) يمنحه حق تعيين من يشاء كوزير أول، ولكن المنهجية الديمقراطية تقضي بتعيين الوزير الأول من الحزب الذي احتل المرتبة الأولى في عدد المقاعد البرلمانية ، كما أسفرت عنها الانتخابات التشريعية الأخيرة وهو حزب الاتحاد".
بعد هذا اللقاء، التقى اليوسفي بكافة الوزراء بمطار مراكش، وامتطوا الطائرة ووصلوا إلى الرباط، وودع الجميع دون أن يخبر أيا منهم باسم الوزير الأول الجديد المعين، أي اسم إدريس جطو.
"قوة الأمم في تصالحها مع ماضيها"
وبعد أن نشرت "تيلكيل" كثيرا من تفاصيل الكتاب، تم التقديم الرسمي للمذكرات يوم 8 مارس 2018.ووسط جمهور من سياسيين وأكاديميين غصت به قاعة مسرح محمد الخامس بالرباط، وألقى عبد الرحمان اليوسفي كلمة بالمناسبة.
اليوسفي الذي كان لا يتحدث إلا نادرا قال "إن مناسبة لقائنا للتقديم الرسمي للأجزاء الثلاثة من الكتب التي تجشم الأخ مبارك بودرقة عناء الإشراف عليها بدعم من الإخوة الأوفياء التي تتضمن في جزئها شذرات من مذكراتي وسيرتي، هي فرصة لنجدد العهد بيننا جميعا، وأيضا لنذكر بعضنا بالقيم الوطنية التي شكلت الأساس الصلب لكل الدروس النضالية التي أبدعتها أجيال من المغاربة في الدولة والمجتمع منذ تأسيس الحركة الوطنية في الثلاثين من القرن الماضي وهي القيم التي لاتزال تشكل السماد الخصب لإتمام مشروع بناء مغرب الغد، مغرب الحريات والديمقراطية وبناء المؤسسات وحماية الوحدة الترابية بقيادة الملك محمد السادس".
وأضاف الراحل "إن ما تضمنته الأجزاء الثلاثة للكتاب هو بعض من خلاصات تجربة سياسية شاء قدري أن أكون طرفا فيها من مواقع متعددة سواء في زمن مقاومة الاستعمار، أو مرحلة البناء بعد الاستقلال، أو من موقع المعارضة، أو من موقع المشاركة في الحكومة"، مبرزا أن مادتها تشكل جزءا من إرث مغربي نعتز أننا جميعا نمتلكه عنوانا لثورة حضارية صنعتها أجيال مغربية متلاحقة، وأنها ستكون بلا شك مجالا لأهل الاختصاص من علماء التاريخ، وعلماء السياسة، وعلماء القانون مثلما ستشكل مادة لتأويلات وتفسيرات إعلامية متعددة".
من جهة أخرى، دعا اليوسفي إلى التصالح مع الماضي والحاضر واستلهام الدروس لبناء المستقبل، وقال "إن رسالتي أوجهها للأجيال الجديدة التي نعرف مقدار شغفها بتاريخ وطنها ومقدار شغفها بمستقبل بلادنا، وأنا موقن أنها تعلم جيدا أن قوة الأمم قد ظلت كامنة في تصالحها مع ماضيها وحاضرها، وفي حسن قراءاتها لذلك الماضي، وذلك الحاضر حتى يسهل عليها بناء المستقبل بأكبر قدر من النجاح والتقدم".
وتابع "لا أبالغ إذا قلت إنها ستحسن صنع ذلك المستقبل مادامت مستوعبة لكل دروس وقيم ماضينا وحاضرنا، قيم الوطنية والوفاء والبدر والعطاء، المنتصرة للحوار بدل العنف والتوافق بدل الاستبداد بالرأي".