د.عبد الجبار الرشيدي
بدا عليها الارتباك والخجل الشديد وهي تتقدم نحوي لتكلمني بصوت خافت ومنكسر بالكاد استطاعت أن تطوع لسانها لتطلق بضع كلمات، لم أتمكن من فك رسائلها. طالبتها بلهجة حازمة بالإفصاح أكثر عما تريده. استجمعت كل رصيدها من الشجاعة والجرأة لتخبرني بالمقصود.
وجهها غير المألوف وحركات يديها المرتعشتين، وهندامها، وتواجدها في مكان غير مألوف، أوقد كل هذا لدي فضولا استثنائيا. سألتها عن حكايتها والأسباب التي دفعتها لتقديم هكذا طلب، وأنا اقول في نفسي لا شك أنها إحدى القصص المختلقة، والروايات المتخيلة والمحبكة في سرد المآسي الاجتماعية والعائلية، لاستدرار العطف والتضامن، لعل راويها يحظى بشفقة تتبعها صدقة.
وبما أنني ككل الناس لا أحب أن أسقط في فخ الاستدرار الخادع، شحدت ذهني و كل اهتمامي لمتابعة الحكاية. وفي كل مرة كنت اقاطعها وأوجه لها أسئلة دقيقة علني أحصل على تناقضات في الرواية، أو بهدف إرباكها وتعجيزها عن الجواب، أو لرصد مكرا معينا.
ولا اخفي سوء ظني في البداية، لأننا اعتدنا سماع قصص مختلقة من أناس مجهولين في الشارع العام، يقتحمون علينا سمعنا وبصرنا بدون استئذان ويشرعون في ترديد اسطوانة المأساة والمعاناة المصنوعة للظفر بجود أو كرم.
بدأت في الإنصات بإمعان، لم تكن الحكاية كباقي حكايات الاستدرار، وفي كل فصل من فصولها كانت الشكوك تتبدد، ويزداد فضولي لمعرفة جزء من الواقع الذي أصبح من فرط إغراقنا في أنانيتنا لا نتلمسه، أو أننا نعلمه لكن لم نعد نحس به.
خديجة امرأة لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، تنحدر من مدينة صغيرة في الجنوب المغربي، متزوجة من شاب ينحدر من قرية معروفة بصوفيتها في شمال المغرب ، لا أعرف كيف جمع القدر بينهما. أثناء حديثي معها كانت خديجة منكسرة في كل شيئ إلا في أصولها، فقد بدت جد فخورة بانتمائها الأمازيغي، وسرعان ما أوقفت حديثها بعربية جميلة، لتتكلم بأمازيغية طليقة، وعيناها تزداد اشراقا مع ابتسامة خجولة لم يستطع الوجه أن ينبسط لها. ولم تتوقف إلا حين أدركت أنني "صفر التكوين".
خديجة كانت تشتغل في مستشفى جامعي خاص بمدينة الرباط ولمدة خمس سنوات كمساعدة معالجة في إحدى المصالح ، وتتقاضى أجرا يفوق بقليل الحد الأدنى للأجر، وتتوفر على حماية اجتماعية وعلى انخراط في صندوق الضمان الاجتماعي، كانت سعيد بعملها.
في ذات يوم من أيام الجائحة الحارقة، وهي تتأهب ككل صباح للعمل، تم استدعاؤها على عجل إلى إدارة المستشفى ليتم إخبارها بقرار تسريحها من العمل والاستغناء عن خدماتها. نزل عليها الخبر كالصاعقة وضاقت بها الارض بما رحبت، وتسمرت في مكانها، ولم تقوى حتى على الكلام. انسحبت بهدوء منكسرة الخاطر ومنهزمة. عزاؤها أنها لم تكن الوحيدة المشمولة بهذا القرار، فقد تم تسريح العشرات من المستخدمين.
حصلت خديجة على تعويض مادي من الإدارة، لكنها ستجد نفسها مضطرة إلى ايداعه كاملا لإحدى شركات القرض، لأنها اصبحت عاجزة عن تسديد الأقساط الشهرية، لقرض كانت قد أخذته ومنحته لأخيها لمساعدته على تحقيق حلم الهجرة لإيطاليا .
زوجها يشتغل في عمل حر، لكنه وعلى عكس كرم ناس الشمال، بخيل ولا ينفق عليها إلا لماما. وتحكي انه يتركها تبيت خاوية البطن لمرات عديدة.
خديجة تحمد الله أنها لم تنجب أولادا، وتحكي قصصا صغيرة كيف يشتد بها الضيق والحال، ولا تدري كيف يفرج الله عليها.
عندما يشتد بها الجوع كانت تذهب إلى بيت عائلتها، وحدث مرة أن سمعت إحدى شقيقاتها تقول أنها تأتي عندهم لتأكل فقط. مرت هذه الكلمات كخنجر دام في صدرها. أسرتها في نفسها ولم تبدها لهم، لكنها أقسمت ألا تطرق الباب مرة ثانية.
تقسم خديجة أن زوجها أتى لها ببقايا طعام بعدما تناول العشاء مع عائلته والتي لا تسكن بعيدا عن دارها. تحكي ذلك بمرارة وقد اغرورقت عيناها بالدموع.
خديجة من مساعدة معالجة تعيش بكرامة وجدت نفسها في الشارع، بدون عائلة تلملم جراحها، وبدون زوج يحضنها ويأويها، تطوع كرامتها على مضض من أجل استجداء عطف الناس، وتمد يدها للصدقة علها توقف قساوة الجوع، ومكر الأهل، وابتلاء زمن الوباء.
وقبل أن أودعها وبعفوية كبيرة طلبت مني أن أقبل منها شيئا ،أدخلت يدها في كيس به "مندلين" أعطاها إياه أحد الباعة، وأخرجت حبيتين ومنحتني إياها. لم أرد أن أكسر بخاطرها، أخذتهما منها وانا أبتسم، وأقول في نفسي كيف يتقاسم المعوزين ما لديهم من النذر القليل ولا يتقاسم الأغنياء القليل من الشيء الكثير.