"امرأة مسنة في سن 73، مارست حرفة التجارة المعيشية لمدة 30 سنة، وهي في وضعية صحية سيئة، تؤكد أن المعبر جحيم يومي لا محيد عنه لضمان لقمة العيش"... صورة ضمن عشرات الصور الصادمة التي ينقلها تقرير اللجنة الاستطلاعية البرلمانية إلى معبر باب سيتة.
"تيلكيل عربي" تنقل مضامين التقرير قبل المصادقة النهائية عليه، وتحاور رئيس اللجنة التي أعدته، وتسأل برلمانيي ونشطاء المنطقة عن دلالات محتوياته، وتنتهي إلى أن إغلاق معبر باب سبتة في وجه "التهريب المنظم" قد يكون نهائيا.
"طابور طويل للنساء، في جو بارد، وأمطار غزيرة، (...) في فضاء يفتقر لأبسط الشروط من مراحيض وأماكن مغطاة تقيهم قساوة البرد والأمطار. (...) ينحدرن من أسر فقيرة، ومنهن أرامل ومطلقات، يعلن أسرا بكاملها، من مدخول التهريب المعيشي. (...) يضطررن للمبيت في هذه الظروف القاسية، كما أن أغلب النساء يستعملن الحفاظات في ظل غياب المرافق الصحية، فضلا عما يتعرضن له من تحرش جنسي وسوء معاملة وانتشار آفة المخدرات".
بهذه العبارات يصف تقرير اللجنة الاستطلاعية لباب سبتة، المكون من 14 نائبا برلمانيا، يمثلون أعضاء اللجنة، المكونة من أحزاب العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، والتجمع الدستوري، والفريق الاستقلالي، والفريق الحركي، والاتحاد الاشتراكي، والتقدم والاشتراكية، ما شاهده النواب بأم أعينهم في المعبر يوم 30 أكتوبر 2018، وهم يحاولون في زيارات متكررة ومفاجئة للمعبر، الوقوف على ما تعيشه 3500 امرأة، و200 طفل قاصر، ومئات الرجال، الذين يشتغلون في التهريب المعيشي، من مآس.
الحركة مقابل الفتات
قبل ذلك التاريخ، سيقوم نواب الأمة بزيارتين مباغتتين ومتتاليتين للمعبر، يومي 10 و11 يوليوز. في الزيارة الأولى، التي يقول التقرير إنها تمت ليلا، "صادفت الزيارة دور الرجال والأطفال القاصرين للدخول إلى المعبر. وقد بلغ عددهم ما يقرب من 400 شخص صرحوا أنهم يقضون ليلتين في العراء للدخول إلى المدينة المحتلة، كما عاين النواب طابورا من الرجال من ذوي الاحتياجات الخاصة ينتظرون دورهم للدخول في اليوم الموالي، وبمعيتهم مرافقون. كل ذلك في ظروف جد سيئة، تنعدم فيها كل شروط الإنسانية مع ما يرافق ذلك من انتشار للمخدرات والسرقة".
عندما سيعود نواب الأمة، في اليوم الموالي، 11 يوليوز، لن يجدوا وضعا أفضل بالمعبر. يقولون في تقريرهم إنهم صادفوا "دخول الطابور الخاص بالرجال، ومنهم ذوو الاحتياجات الخاصة، وبعض الأطفال القاصربن، الذين قضوا ليلة بكاملها في العراء، ليلتحق بهم في الصباح طابور خاص بالنساء لتعم الفوضى والازدحام والتدافع". يقول النواب إن هذا الطابور خاص بالنساء العاملات في سبتة، وهن عموما من الخادمات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 35 و50 سنة. وعاين النواب كيف "تعرض بعضهن للإهانة والسب من طرف بعض المنظمين... كما لاحظ النواب وجود فتيات يمتهن الدعارة بالمدينة المحتلة"، ضمن النساء الراغبات في دخول المدينة.
هذه الإهانة اليومية، والتي يتجرعها أيضا مسنون ومسنات، تتم مقابل ربح يتراوح بين 100 و200 درهم، وقد تصل عند بعض مساعدي "الحمالة" من القاصرين إلى 20 درهما فقط، دون أن تسلم البضاعة التي قد تتعرض للحجز، وقد ينتهي الأمر بصاحبها أو صاحبتها إلى الدخول في غيبوبة، دون أن يسعفه أحد، بسبب "الإغلاق المستمر للوحدة الصحية بالمعبر"، يقول التقرير.
ولم تتردد اللجنة في التأكيد على أن "هناك شعورا عاما بالحكرة والإهانة في صفوف النساء ممتهنات التهريب المعيشي. ويقدم التقرير نموذجين لذلك: "حالة تدخل مؤسسة محمد الخامس للتضامن لإنقاذ امرأة من ممتهنات التهريب المعيشي في سن 50، أصيبت بحالة هستيرية بعد حجز سلعتها"، و"تصريح لامرأة مسنة تبلغ من العمر 73 سنة مارست حرفة التجارة المعيشية لمدة 30 سنة، وفي وضعية صحية سيئة تؤكد أن المعبر جحيم يومي لا محيد عنه لضمان لقمة العيش".
هذه الأوضاع يستفيد منها بالأساس "كبار المهربين"، ذلك أن "كل المصرحين يؤكدون أنهم مجرد ناقلي بضائع تعود ملكيتها للوبيات كبار التجار"، كما يستفيد منها رجال أمن ودرك؛ "فهناك 1000 سيارة خاصة بالتهريب، بعضها في ملكية رجال الجمارك والأمن، والتي يقدر عددها بحوالي 200 سيارة، وتحظى بامتياز الدخول إلى المدينة بشكل مباشر ودون انتظار، مما يطرح تساؤلات حول حجم الخسائر التي تتكبدها الدولة المغربية، والجهة التي تقوم بحمايته".
من أجل ذلك، يحرص كل من تحدث إليهم "تيلكيل عربي" على وصف نشاط التهريب بمعبر باب سبتة بأنه تهريب منظم تستفيد منه بالأساس "لوبيات"، ليس تنظيما معاشيا، يسد رمق الجائعين، ويضمن نشاطا للعاطلين.
الأوضاع تحسنت لكن...
عندما سأل "تيلكيل عربي" يوسف غربي، رئيس اللجنة الاستطلاعية، النائب البرلماني عن حزب العدالة والتنمية "هل تغيرت الأوضاع في معبر سبتة بعد المهمة الاستطلاعية؟"، رد "وقعت مجموعة من الإصلاحات، سواء تعلق الأمر بتدفق السيارات، أو تدفق محترفي التهريب المعاشي. ولعل إحدى المؤشرات الكبيرة على ذلك أن عددا كبيرا من المغاربة الذين كانوا ينتقلون للاستقرار في المنطقة غادروا أدراجهم إلى مناطق سكناهم في المدن الداخلية".
ويحرص غربي، في تصريحاته لـ"تيلكيل عربي"، على إثارة الانتباه إلى أن ما يصدر عنه ليس رأيا شخصيا أو تقييما خاصا، بل هو تعبير أمين عما يعتقده أعضاء اللجنة.
ويعترف أنه وعددا من النواب، المحمولين بحماسة اجتماعية، لم يترددوا في الدعوة إلى "أنسنة المعبر"، لكنهم بالمقابل يتفهمون جيدا الاعتبارات السياسية والأمنية التي تجعل إقامة بنيات صحية في المنطقة أمرا صعبا، وأضاف "إننا في منطقة ذات طبيعة خاصة. إننا في جزأين من وطن واحد، أقيمت على أرضه حدود وهمية، وإقامة تلك البنيات قد يفهم منه نوع من الترسيم وتثبيت لوضع قائم لكنه مرفوض".
يقر يوسف غربي بأنه لا يستطيع أن يجيب بالإيجاب أو التفي" هل عاد المركز الصحي الذي وقفت اللجنة على أنه كان دائما موصد الأبواب إلى الاشتغال أم لا؟"، لكنه، بالمقابل، ينقل عن رئيس جماعة محاذية لباب سبتة أن المنطقة التجارية التي تم اقتراحها من أجل استيعاب الشباب العاطل عن العمل، وتوفير شغل يضمن لقمة عيش كريمة، لم تنجز بعد.
مؤشرات الإغلاق النهائي
اللجنة قدمت تقريرها في أكتوبر2019. في نفس الشهر، وبالضبط في اليوم السابع منه، أي قبل حوالي ثلاثة شهور، أقدمت السلطات المغربية على إغلاق المعبر في وجه" التهريب المنظم"، دون أن تحدد تاريخا لإعادة تشغيله. ويعتقد محمد بنعيسى، رئيس مرصد الشمال لحقوق الإنسان، أن الإغلاق جاء بعد مصرع شخصين ممتهنين للتهريب، شاب وسيدة، وما أعقب ذلك من إطلاق "هاشتاغ" "أغلقوا معبر الموت".
ورغم أن السلطات سبق أن أغلقت المعبر بعد مصرع ممتهنين للتهريب المعاشي في 2 يوليوز 2017، ثم عادت إلى فتحه خلال سنة 2018، إلا أن بنعيسى يعتقد جازما أن قرار السلطات هذه المرة لا رجعة فيه، حجته في ذلك أن "الأرقام القادمة من الضفة الأخرى تشير بشكل لا لبس فيه إلى أن المستفيد من المعبر، فضلا عن "اللوبيات"، هو الطرف الإسباني/الاحتلال، بمداخيل تقدر بما بين 500 و700 مليون أورو سنويا".
المؤشر الثاني على أن الإغلاق نهائي هو تشديد السلطات المغربية لعمليات تسليم شهادات السكنى وإنجاز جوازات السفر في المنطقة بالنسبة للمغاربة القادمين من مناطق أخرى. ويطال هذا التشدد أيضا مغاربة سبتة، الذين لم يعد يقبل منهم فقط "تصريح العبور"، بل صار يشترط أن يدلوا بجوازات سفرهم لدخول المناطق الخاضعة للسلطة المغربية".
ونتائج ذاك بالنسبة لبنعيسى واضحة، فـ"مدينة الفنيدق أصبحت مدينة أشباح، ولا عبرة بمواد التهريب التي لا تزال في السوق، فهناك مخزون كبير، يصعب أن يستهلك بسرعة، فبعض المخازن تراكم سلع تصل قيمتها إلى ملايين الدراهم".
في انتظار الحل النهائي
إحدى بنات الفنيدق، خديجة زياني، النائبة البرلمانية عن الفريق الدستوري، الذي جاء إحداث اللجنة بمبادرة منها، لاتملك "جوابا صريحا وواضحا ومباشرا، إن كان إغلاق معبر باب سبتة في وجه التهريب" المنظم وليس المعاشي "نهائيا"، لكن كل المعطيات التي تحدث عنها رئيس مرصد الشمال لحقوق الإنسان، تؤكدها زياني؛ "ليس هناك تهريب معاشي، كان هناك تهريب منظم يضر الاقتصاد الوطني. كانت هناك سلع استهلاكية منتهية الصلاحية تهدد صحة المغاربة".
وتعتقد زياني أن الحل بالنسبة لأبناء المنطقة هو إقامة منطقة تجارية حرة؛ "هذه المنطقة هي البديل الحقيقي. الدراسة الخاصة بها موجودة. والقوانين التنظيمية ستخرج إلى حيز الوجود".