بتنا خلال السنوات الأخيرة أمام مشاهد وصور تتسيد كبريات الصحف والمجلات المحلية منها أو العالمية، وهي للإشارة لا تخرج عن نطاق التنويه بما تصنعه إلترات فرق كرة القدم.. هل كان لزاما الانتباه إلى هذا الأمر وإخراجه من جبته الرياضية إلى الثقافية والسياسية؟ طبعا نعم، لسبب بسيط يكمن في أن جماهير مدينة الدار البيضاء لم يعد هاجسها الأول تشجيع فرقها فقط، وإنما مزج حبهم اللامشروط بجرعات جديدة من السياسة وما يدور في فلكها.
يبدو الأمر مقبولا بعض الشيء، ونحن نشاهد عن كثب كيف تحول المركب الرياضي محمد الخامس إلى فضاء تنتقد من خلاله الجماهير بما يقوم به المسؤولون، ترميهم بالفساد وخيانة الأمانة واللف عن الوعود الانتخابية ونهب المال العام وما إلى غير ذلك من الملفات الحارقة التي يعلم خباياها المجلس الأعلى للحسابات كما تعلم أسرارها وزارة الداخلية أكثر من الكل. في المقابل، هل يعني هذا الأمر أننا بتنا إزاء وعي سياسي من طرف جماهير كرة القدم أغلبهم شباب ينحدر من أوساط مهمشة؟
سيكون الأمر مقبولا ومنطقيا لو اتخذت الأمور وجهها الواضح، إذ لا فرق على المستوى الرمزي بين الهندسة المعمارية للمركب الرياضي محمد الخامس، وبين ساحات ومسارح اليونان والرومان حيث الجمهور يجلس في المدرجات بينما يؤدي الممثلون أدوارهم التراجيدية منها أو الكوميدية في الأسفل، هذا إضافة إلى الألعاب الأولمبية التي كانت فرصة للنبلاء من أجل الترفيه ومناقشة آخر مستجدات المدينة سياسيا واقتصاديا. لكن ما ليس منطقيا هو الأزمة البنيوية التي بتنا نعاني منها، حيث نضع أمام نصب أعيننا تقابلا ساذجا بين نوعين من الناس، وهم الأخيار والأشرار، الجلادون والضحايا، المستفيدون والمنهوبون.. لنقرأ هذه الصور السريالية بكل موضوعية.
سيكون من الأهمية بمكان أن ترفع جماهير كرة القدم شعاراتها المناوئة للسياسة العامة للبلاد، سيقول قائل: أليس في هذا خلطا سافرا بين الرياضة والسياسة؟ وسأرد بالمثل: لو وجد الناس متنفسا للتعبير عن آرائهم غير الملاعب والمقاهي لكان الأمر غير مقبول، وهو للإشارة تجسيد ضمني لغياب ثقتهم فيمن نعتبرهم نخبة سياسية، وإشارة واضحة ملؤها الحنق على ما يأتي من السياسة والسياسيين.. إذن فلماذا هذا التقابل بين البرلمان وملعب كرة قدم؟ يستفسرني أحدهم بمكر.
الجواب يكمن في الأشياء التي نخفيها ونتواطأ حولها وإن كنا نعلم فحواها دون الإعلان عن ذلك، اعلم يا صديقي أن السواد الأعظم من الجماهير التي تحمل شعارات مناوئة للتدبير السياسي، هي نفسها من قامت بالتصويت على المسؤول السياسي، ليس بناء عن اقتناع بالبرنامج السياسي وإنما بمقابل مادي يبدأ بورقة نقدية من فئة 200 درهم ليصل بعدئذ إلى آلاف الدراهم. وهي نفسها من تقدم رشوة لقضاء مآربها.. هذه الجماهير لا تعطينا درسا في المواطنة، حيث التدافع سيد الموقف سواء عند نقط بيع التذاكر أو خلال الولوج لبوابات الملعب.. وهو تدافع يحمل شعار البقاء للأقوى دون أن نلمس فيه ولو بصيصا صغيرا من احترام الأسبقية. يقاطعني متسائلا مرة أخرى: لو كانت نقط بيع التذاكر منتشرة في ربوع المدينة لما حصل ذلك؟ أجيبه في الحين: ليس الأمر قضية توفر نقط بيع من عدمها، انظر إلى شبابيك تذاكر القطارات ومحطات الميترو في العواصم العالمية التي تؤمن بالمواطن والفضاء العمومي كي تعرف الفرق، وانظر إلى ثقافة حق القوة أمام بقال صغير حيث لا تحترم معايير الأسبقية رغم وجود آلاف المحلات التجارية..
أتساءل في نفس السياق: أليس من الغريب أن تنتقد السياسة العامة وأنت لا تحترم الفضاء العمومي؟ يكفي أن تشاهد الكم الهائل من الأزبال التي يتركها المشجعون.. يكفي أن تتأمل حال الكراسي المقتلعة من موضعها، ويكفي أن تقف مليا أمام شخص يندد بالوضع العام ثم يستفيد من مضاربات السوق السوداء خلال عملية بيع التذاكر.. نفس الشخص ينتشلك داخل الملعب أو خارجه.. ربما لن يجد أي حرج في منح ورقة نقدية من فئة 200 درهم للمسؤول عن امتحان السياقة وهو أمر معمول به أمام صمت وزارة التجهيز. ربما لن يجد أي رادع داخلي إذا قرر النصب على شخص آخر، ثم يسمي عملية النصب هذه نباهة وذكاء. نفس الشخص ينتقد وعندما تقول له ابدأ من نفسك، يجيبك بأن تراه يقود حملة انتخابية ويقول لك: أعرف أن هذا المرشح لص لكنه يمنحني أجرة جراء عملي اليومي. أليس في هذا الأمر تناقضا مبينا؟
على العموم هناك تشابه بيّن وظاهر بين البرلمان والمركب الرياضي محمد الخامس، سواء من حيث المدرجات وعقلية التمثيل، أو باعتبار كليهما مجرد ظاهرة صوتية ترغد وتزبد من أجل مصلحة المواطن والبلد، لكنها لا تتوانى في الوقوف على حساب الآخرين واستغلالهم بوحشية، الأول تمكن من السلطة بفضل الثاني، والثاني عندما يجد الفرصة السانحة لامتلاك السلطة لن يتوانى في السير على نفس منوال الأول. كلاهما وجهان لعملة واحدة، وكلاهما يعلم علم اليقين أن الأول اشترى صوت الثاني والثاني باع صوته للأول، هذا الأخير يحركه جشع يتحدث لغة الملايير حين الاستحواذ على كرسي في البرلمان، بينما الثاني لا يفقه في ذلك، تكفيه ورقة زرقاء كي يضع يده في يد الشيطان، وعندما يجلس على ما تبقى من كرسي الملعب يندد بالوضع السياسي الغاشم ناسيا أنه كان ولازال أبرز مساهم فيه.. صحيح أني لا أعمم، لكن الأغلبية الساحقة التي توشك أن تصبح كلا تتصرف وفق هذا الذي قلته.. إلى لقاء قريب.