مع كل رابع عشر من شهر فبراير يخلد العالم عيد الحب، وككل موعد مرتبط بثقافة أجنبية تتناسل الأسئلة التي ألفناها في كل مناسبة مشابهة، هل يجوز أو لا يجوز؟ حلال أم حرام؟ مقبول أم مرفوض؟، ومع كل ذلك سيل من الفتاوى المتضاربة والمتناقضة، كل حسب زاويته ومصلحته وإيديولوجيته.
لا أحب الدخول في هذا النقاش العقيم الذي استنزف كثيرا من عمرنا، فيما شعوب العالم تستغل اليوم لنشر المحبة و الود، بعيدا عن الصراعات الثقافية و الأدلجات المدمرة، لكنها مناسبة لإثارة الحديث عن موضوع ذي أهمية قصوى، وعامل مؤثر في دفع كثير من القبح والشر الذي يعرفه العالم، لكن مجتمعاتنا أفقدته كثيرا من مغازيه، إما تحت سطوة مفاهيم دينية مغلوطة، أو مادية غارقة في التشييء والاستهلاك.
تخليد الحب أولا ليس ثقافة وافدة ولا غريبة عن مجتمعاتنا بكل روافدها ومكونات هويتها المختلفة، حتى المجتمع العربي الصحراوي البدوي الذي كان قاسيا وذكوريا بامتياز، ومع أن العربي يجد صعوبة في إظهار ضعفه ورقته، إلا أن التراث الشفهي والشعر منه خاصة، كان جله للحب والعشق والتغزل في المحبوب، بل يمكن القول أن أجمل ما في الأدب العربي هو ما تعلق بالعشق وأحواله وحكاياته، حتى إن قصائد الحب علقت على أستار الكعبة تخليدا لها واحتفاء بها.
ومع التحول من مجتمع بدوي إلى حياة مدنية ازدهرت سوق الحب، وتنافس الأمويون والعباسيون والأندلسيون في إنتاج كل ما له علاقة بالحب، وظهر أثر ذلك على الموسيقى وما رافقها من موشحات وألحان، لا زالت قائمة الى اليوم.
حتى الفقهاء مع ما يطبع كتاباتهم العقدية والفقهية من جفاء وجمود، أبدعوا في الحديث عن الحب ومعانيه وأماراته وقصصه وحكاياته، فكتب ابن حزم الأندلسي كتابه المشهور: "طوق الحمامة في الألفة والألاف"، حتى ابن قيم الجوزية الحنبلي صاحب الصولات والجولات، والعناوين الحربية في معارك الكلام والأصول، كتب بكل رقة عن الحب في كتابه الجميل: "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، بل لم يسلم من ذلك حتى حكام الجور وسلاطين الدم كيزيد بن معاوية السفاح الأموي الذي نظم في ذلك أروع القصائد وأحلى الشعر، وما قصيدة " أصابك عشق أم رميت بأسهم" التي تلهج بها الألسن عنا ببعيد.
هذا دون الحديث عما أبدعته المدرسة الصوفية في هذا الباب، وروعة ما قدمته في العشقيات، وهذه أشعار ابن عربي وابن الفارض والحلاج، لا تزال شاهدة على قيمة ما أسهمت به هذه المدرسة في فضاء الحب الذي لا حدود له ولا قيود.
محليا تحتفظ الذاكرة الجماعية بكل مكوناتها بتراث غني يخلد قصص العاشقين والمحبين، شكلت الفنون التعبيرية من قصة وحكاية ولحن وأغنية وعيطة وعينا عن الحب، كل الفنون احتفت به بطريقتها، ووفق بيئتها، وتبعا لعاداتها وأعرافها؟
ما الذي وقع إذن حتى أصابنا الجفاف في المشاعر والقحولة في الأحاسيس والعجز في التعبير؟ لا شك أن أسباب ذلك مختلفة ومن السطحية اختزالها في جواب واحد، ولا شك أيضا أن الحياة المادية قد أضعفت فينا جانب الروح والوجدان، حتى مفاهيم الأخوة والصحبة والرجولة والوفاء تعرف نكوصا وتراجعا خطيرا، بفعل سيطرة المادية المدنية، ولا شك أن الانتقال من مجتمع بدوي نحو دولة مدنية حديثة، قد جعل مجموعة من القيم تعيد التعبير عن ذاتها بشكل مختلف، فبعضها يتقدم وبعضها يتراجع، لكن المؤكد هنا أنه قد وقع السطو على هذه الكلمة "الحب"، وتسابقت كل جهة لتعريفها ووضع حدودها، بينما لا أحد يملك الحق في تحديد معنى الحب ولا وضع أي حدود له، لا الفقيه يملك ذلك ولا القانوني ولا المجتمع ولا رجل الدولة، وحدهم المتحابون الذين نريد إخراس أصواتهم من لهم ذلك، ولهذا هم من ينتصر ويتفوق، وتكون له الكلمة الفصل والأخيرة.
حين تربط الحب بالحلال والحرام وما يجوز وما لا يجوز فأنت تتحدث عن أي شيء إلا عن الحب، لأن الإحساس الغريزي والوجودي والروحي لا يوصف بحل ولا حرمة، وليس خاضعا للتصرفات البشرية الخاضعة لمثل هذه الموازين، ولهذا حتى النبي عليه الصلاة والسلام، تعاطى مع الحب بمقتضى بشريته لا مقتضى نبوته ورسالته، حين كان يعلن عن عشقه لخديجة وهيمانه بها ولو بعد سنوات من وفاتها، حين كان يجهر أمام أصحابه بحبه لعائشة وتفضيل قلبه لها، فلم يكن يسن قانونا دينيا ولا يقدم حكما شرعيا، كان يمارس إنسانيته بكل صدق وعفوية.
حين يسأل الفقيه عن الحب، فيتحدث عن الاختلاط والخلوة والفتنة والزنا وووو... فهو دون أن يدري يقع في تشييء الحب وتبخيسه، بل من السخرية أنه يلتقي في ذلك مع ألد أعدائه من فلاسفة الإلحاد ورعاة نظرية التطور والترقي؟ مالفرق بينه وبين من يرى أن الحب ليس إلا حيلة نفسية من أجل ممارسة الجنس، أو أنه ليس إلا فعلا حيوانيا بقي من حياتنا الحيوانية القديمة؟ ثم تجد نفس الفقيه يتحدث في محاضرة أخرى عن الغرب وفراغه الروحي وطغيان المادية على سلوكه وأفعاله.
في مقابل ذلك، لا يمكننا القفز عن البعد الاقتصادي الذي طبع هذه المناسبات الاحتفالية بالحب، وتحولها لطقوس تجارية واستهلاكية، بل حتى نفسية أحيانا، حيث تستعرض عضلات الفوز بمحبوب ورغبته، تجد في السان فالانتاين كل شيء إلا الحب، عروض وسهرات وتذاكر سفر وورود و شوكولاطا فاخرة،وألوان حمراء وسوداء تحيل على الليالي الماجنة، لكن أين الحب؟
لا زلت أذكر ونحن صغار كيف كانت كلمة "حب" كلاما معيبا لا نستطيع الجهر به أمام أقاربنا وذوينا، وكيف كان ذكر الحب أو الحديث عنه في لقطة تلفزيونية يثير حرجا أمام أفراد العائلة، بفعل ما أصابنا من جفاء في المشاعر، مع تشويش العقل الفقهي، حتى قرن هذا الشعور الوجداني النبيل بكل ما هو فسق وفجور.
وان الحب هو جزء من علاقتنا بالذات
يجب ان نتصالح مع مفهوم الحب ونعيد له الاعتبار
ومعناه الحقيقي السامي
محتاجون جدا للحب، محتاجون جدا للاحتفاء به وتخليده، للتصالح معه وإعادة اعتباره، واجبنا اليوم أن نعيد للحب معناه الطبيعي والسامي،وأن نعي أنه جزء من علاقتنا بذواتنا، وليس أن نضعه بين مطرقة الاستهلاك والمادية، وسندان الكبت والاختزال في الغريزة.