افتتح "منتدى تيل كيل" (Forum Telquel) أولى لقاءاته مع المشتركين (Les abonnés) باستقبال إدريس بنهيمة، الشخصية العمومية المعروفة، فهو المهندس خريج المدرسة المتعددة التخصصات والمدرسة الوطنية العليا للمعادن بباريس، الذي مر من عدة مناصب وبمسؤوليات كبيرة، قبل الدخول إلى المجال السياسي بعد التقاعد.
كان بنهيمة وزيرا للنقل والملاحة التجارية والسياحة والطاقة والمعادن (في عهد الملك الحسن الثاني، ضمن آخر حكومة قبل حكومة التناوب التوافقي)، بعد أن ترأس المكتب الوطني للكهرباء، وقبل أن يرأس اللجنة المكلفة بتقديم ترشح المغرب لمونديال 2006 (في عهد الملك محمد السادس)، ليتم تعيينه بعد ذلك واليا على الدارالبيضاء الكبرى، ثم مديرا عاما لوكالة تنمية أقاليم الشمال، ثم وكالة إنعاش وتنمية الشمال، قبل أن يتم تعيينه مديرا عاما للخطوط الجوية الملكية، وهو آخر منصب عمومي تم تعيينه فيه.
وبعد أن تقاعد، قرر أن يمارس "السياسة"، كما قال، خلال حضوره في "منتدى تيل كيل"، عشية أمس الثلاثاء، من خلال حزب الاستقلال، وأساسا رابطة الاقتصاديين الاستقلاليين، التي ظهر في أحد أنشطتها ينتقد النموذج التنموي المغربي، وهو موضوع كان، من بين أخرى، من محاور النقاش بين ضيف المنتدى ومنشط اللقاء، رئيس تحرير مجلة "تيل كيل" رضى دليل، والمشتركين الذين حضروا اللقاء.
نموذج تنموي غير مكتمل
وبعد أن ذكّر منشط اللقاء بتركيز بنهيمة، في لقاء سابق، على النماذج التنموية الثلاثة التي اختارتها المملكة تباعا، وهي نماذج "الباب المفتوح"، ثم "التنمية المركزية الذاتية"، والنموذج التنموي الحالي المنبني على "توافق واشنطن"، والذي كان من بين علاماته البارزة برنامج التقويم الهيكلي والخوصصة، والتي كانت من نتائجه الحالية نسب نمو بلا خلق مناصب شغل هامة.
في هذا الصدد، أوضح بنهيمة أن النموذج التنموي الحالي "غير مكتمل"، وهو "نموذج تنموي ليبرالي فُرض علينا ودخل بجرعات صغيرة، لكن لم تكن هناك جهود لتملّكه".
ودعا إلى العودة إلى أسس النموذج الأصلي، الذي يجب تقبله ثقافيا واجتماعيا، موضحا أنه قد تم فقط تبني آليات ذلك النموذج، ولم يكن هناك اهتمام بجوانب أخرى من قبيل الإنصاف الجبائي.
وأوضح المتحدث أن نسبة الضغط الضريبي تصل إلى 23 في المائة، وأن الضغط الضريبي منصب على "أبطال" الاقتصاد، ليعتبر أن "الإنصاف الجبائي هو الحل".
وشدد على انخفاض الإنفاق على العنصر البشري، بحيث صار النمو يجذب الأرباح أساسا ولا يترجم على القدرة الشرائية للمغاربة واندماجهم الاجتماعي، على حد تعبيره. وأكد المتحدث على أن "الدولة لا تقرر 'فعل' الاستثمار (L’acte d’investir) وهذا هو النموذج الليبرالي الذي تم اختياره".
ودعا بنهيمة إلى التفكير في مهن المستقبل التي ليست، بالضرورة، هي الطيران ومراكز النداء. وأوضح أن هناك مهن للمستقبل في السياحة، فضلا على ما يتم إنجازه في الفلاحة والصيد البحري.
ولما طرح عليه مشكل مصفاة "سامير"، بدا بنهيمة متحفظا، وأكد على التركيز على التخزين، بدل التفكير في التكرير. ودعا إلى تركيز مساعدة الدولة على المجالات التي لها مردودية، في إطار سياسة تضامنية ومجالية.
"البيضاء نقطة سوداء"
وفي السياق الحالي، شدد بنهيمة على أن العولمة، التي ركز عليها كمحور ثان بعد النموذج التنموي، تسببت في الفروق المجالية. واعتبر أن "الجهوية هي مفتاح العولمة"، لكنه حذر من "جعل الجهات تتشابه" ودعا إلى جعلها "تتخصص".
على هذا المستوى، انتقد بنهيمة التقطيع الإداري لسنة 1992، الذي جعل "كل جهة تتوفر على شيء من كل شيء، حتى من البحر". واعتبر أن التقطيع الحالي أحسن من السابق بكثير.
ورغم أنه كان واليا سابقا على العاصمة الاقتصادية للمملكة، فقد عبر عن رفضه لتوسيع صلاحيات الولاة، واقترح "تطوير إدارة تقنية تحت الإشراف المباشر للمنتخبين، مع تحسين قدراتهم". وأوضح أن "الدارالبيضاء تبقى نقطة سوداء"، مقابل تسيير أفضل في مدن كبرى أخرى.
وانتقد تكاثر شركات التنمية المحلية، واعتبر أن واحدة كانت تكفي.
واقترح من بين حلول أخرى، لتفادي الاختلالات المجالية، تطبيق التسهيلات الجبائية في الأقاليم الجنوبية على مناطق تعاني من "الفجوة الترابية"، فضلا عن تأسيس وكالات للتفكير الاستراتيجي في الجهات، وليس فقط لتنفيذ القرارات.
مدرسة القيم
ومن بين المواضيع التي طرحت على بنهيمة في النقاش، موضوع التعليم ولغة التدريس، وبعد أن أسف لوضع حد لتجربة محمد حصاد في التعليم، اعتبر أن "مشكل اللغات وهمي".
وأكد أن التشخيص معروف والعلاج هو "إيجاد آلة للتربية الوطنية تعطي المعنى"، وشدد بالقول "فشلنا في التعريب والعودة التعسفية إلى اللغة الفرنسية مع أساتذة لا يجيدونها ومع تلاميذ مستواهم دون ذلك، سيزيد الأمر سوءا".
وأكد على ضرورة أن تكون اللغة العربية هي لغة التدريس، لأنها "لغة البلاد".
وشدد المتحدث على القيم التي يتم تلقينها في المدرسة، وركز على تنامي ظاهرة الغش وحتى تزوير الشواهد. فقد أكد، من خلال تجربته في التوظيف، أن مؤسسة كان يرأسها تلقت حوالي 22 دبلوما مزورا من أصل 200، ليؤكد "هؤلاء الشباب لا قيم لهم. وإذا كانت الآلة لا تشتغل جيدا لا تهم اللغة وسنزيد الأمر سوءا"، داعيا إلى تعبئة هيئة التدريس لإصلاح التعليم.
وحول تعاطي الطبقة السياسية مع الموضوع أكد أن "هذه الطبقة هي أيضا نتاج لهذا التعليم".
تقبّل السياسة
على مستوى الاختيار السياسي الشخصي، أوضح بنهيمة أنه انتظر التقاعد ليعبر عن خيار سياسي (حزب الاستقلال). وأوضح أنه "متقبل للسياسة في المغرب"، وكانت لديه "علاقات متوازنة مع الوزراء الذين عمل معهم".
وشدد على أن البلاد تتوفر على دستور ونصوص تشريعية في المستوى ولكن تطبيقها هو الذي يطرح مشاكل.
ونوه بنهيمة بدعوة الملك لفتح النقاش حول النموذج التنموي، مؤكدا على الدور التاريخي للملكية في الحفاظ على التنوع، وذكر، في هذا الصدد بمفهوم "الأمة المغربية" لدى الزعيم الاستقلالي علال الفاسي.
وأوضح أنه يرفض "إقامة سور الصين بين التقنوقراط والسياسيين". لكنه انتقد رئاسة الوزراء للمجالس الإدارية للشركات العمومية...