بوعياش: الإسلام وحقوق الإنسان لا يتعارضان

بشرى الردادي

سجلت آمنة بوعياش، رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، اليوم الأحد، بالرباط، أن "حقوق الإنسان ليست مجرد مبادئ نظرية، بل هي التزامات تستند على مرتكزات تشكل إطارها الفلسفي والقانوني، وعلى رأسها الكرامة المتأصلة، والمساواة، والحرية، والعدالة، وسيادة القانون".

وقالت بوعياش، خلال ندوة تواصلية بين العلماء والخبراء في التنمية، حول مشروع العلماء في خطة "تسديد التبليغ"، نظمها المجلس العلمي الأعلى: "هذه المرتكزات، بطبيعة الحال، ليست بعيدة عن الموضوع الذي نناقشه، بل هي مداخل أساسية للتداول في هذا المحفل الفكري الهام، باعتبارها نقاط تمفصل الحقوق والتنمية والثقافة".

وتابعت المتحدثة نفسها: "من هذا المنطلق، ولما كانت القيم تختلف بحسب السياقات الحضارية والثقافية والاجتماعية، فإن جوهر الأهداف المقاصدية للإسلام، كدعوة كونية تخاطب الناس كافة، تتقاطع، بوضوح، مع جوهر القيم المؤسِسة لمنظومة حقوق الإنسان، وهو تقاطع قابل للتطوير والتوسيع والتعميق عن طريق الاجتهاد، باعتباره جهدا بشريا يهدف إلى تحقيق أثر هذا الجوهر في حياة الناس، وتحويله إلى مناط سلوك في حياته اليومية، وهو جهد مجتمعي بالضرورة؛ أي أنه خاضع للتحولات المجتمعية".

وأضافت بوعياش أنه "يمكن تحديد التقائيتهما في مستويين، على الأقل. أولهما؛ أن مقاصد الدين الحنيف لا تتعارض في عمقها مع الأساس الأخلاقي للمنظومة الكونية لحقوق الإنسان، تماما على النحو الذي بينه فلاسفة وعلماء؛ كالفارابي، وابن رشد، وغيرهم... وأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كمرجعية مؤسسة، يعكس توافقا لحضارات وثقافات مختلفة. وتنص بين ما تنص عليه، حماية حرية التعبد وممارسة الدين وإقامة شعائره. ثانيهما؛ أن التوافق والتطابق على مستوى جوهر القيم؛ أي المبادئ الأخلاقية الكبرى، لا ينفي التفاوت والاختلاف على مستوى البعد التطبيقي لمنظومة القيم، وهو ما يمكن معالجته عبر مداخل الاجتهاد وعمليات الرقي أو النهوض التي تستهدف الممارسات والسلوكيات والعقليات لحماية كرامة الإنسان".

كما سجلت أن "هذه العمليات المتعددة الأبعاد لا تتطلب فقط مراجعة القوانين والإجراءات والمساطر، بل تتطلب كذلك الانكباب على المقومات الذاتية للفرد؛ بما فيها الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والدينية، وغيرها، لجعل الإنسان محور التنمية الرئيسي، فاعلا فيها، ومستفيدا منها. وينبغي أن يستند التفكير في سبل وآليات التنمية بالمغرب على مقاربة واعية بتمفصلات حقوق الإنسان والتعقيدات الإنسانية والمجالية للتنمية؛ حيث خلصنا، في رصدنا، إلى عدم اختزال التنمية في أرقام النمو فقط، بل جعلها في قلب معادلة تستوجب التركيز على الأبعاد الثقافية والاجتماعية المحددة للقيم المحفزة للتنمية".

وأبرزت رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان أن هناك أربع قيم أساسية يعتبرها المجلس بمثابة أرضية عمل مشتركة بين كل الفاعلين في التنمية؛ أولها قيمة الحرية التي لا تندرج ضمن نطاق تفكير فلسفي مجرد فحسب، بل غدت ركيزة أساسية لتحقيق التنمية"، موضحة أن "بعض الحريات تخضع، في إطار معايير دولية، لضوابط وقيود في ممارستها، باستثناء الحق في الحياة، الوحيد، الحق المطلق".

وتابعت أن "الحرية تعكس إرادة الفرد والجماعة، وفيما يهم موضوعنا، حريتهما (أي الفرد والجماعة) في إطلاق مبادرات تنموية، وقدرتهما على الابتكار والإبداع، لخلق الثروات ضمن آليات قانونية. ولعلّ هذا ما يفسر توجه النظريات الاقتصادية الحديثة نحو ترسيخ صلة وثيقة بين الحرية والتنمية، كما هو الحال في أطروحات الاقتصادي أمارتيا سين (Amartya Sen)، الحائز على نوبل في الاقتصاد. إذن، فترسيخ قيمة الحرية في مجتمعاتنا يقتضي فهما عميقا للتحولات والتحديات المتعددة الأبعاد التي أفرزتها ولا تزال، وسائل التواصل الاجتماعي، التي أتاحت إمكانيات غير مسبوقة للنقاش وتعبئة الأفراد والجماعات خارج الأطر التقليدية للتداول العمومي".

وقالت بوعياش إن "هناك تحديات تطرح علينا وتسائلنا من حيث استيعاب التحولات التي طرأت على بنية المجتمع بعلاقته مع طبيعة المجال العام، ولاسيما فيما يتعلق ببروز تعابير عمومية بالفضاء الرقمي تعبر عن تطلعات أفراد ومجموعات نحو مجالات أكثر انفتاحا وعدالة. ونعني بالتعابير العمومية، الأشكال والأنماط التي تبتدئ بالتداول الافتراضي، وتتطور لفعل عمومي يسائل الواقع المجتمعي".

أما القيمة الثانية، تضيف المتحدثة نفسها، فهي "المساواة، التي تعتبر إحدى الركائز الأساسية الضامنة لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة، نظرا إلى طابعها العرضاني الذي يجعلها شرطا أساسيا لنجاح مختلف البرامج التنموية؛ إذ لا يكفي إدراجها في الدساتير وسَنّ القوانين لضمان انعكاسها الفعلي على واقع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية"، مضيفة أن "مبدأ المساواة يترجم عبر آليات تعزز تكافؤ الفرص في مجالات التعليم، وولوج سوق الشغل، والرعاية الصحية، والتمكين الاقتصادي، بما يضمن استفادة الجميع من ثمار التنمية دون تمييز، وتوفير بيئة داعمة تتيح مشاركة الفئات في وضعية هشاشة".

وكشفت بوعياش أن "المجلس استنتج، في هذا السياق، أن بلدنا مازال يواجه تحديات كبيرة لسد الفجوات وتحقيق التوازن والسعي نحو المساواة في مختلف أبعاد التنمية".

فيما تمثلت القيمة الثالثة في العدالة؛ "حيث تمت بلورة نظرية "القدرة" (capacité) لأمارتيا سين، لتوضح أن التوزيع العادل للموارد لا يكفي لضمان العدالة بين الأفراد، إذا كان لا يسمح، بشكل متساو، بـ"تحسين ظروف" الأفراد الأكثر هشاشة واحتياجا. فالولوج إلى التعليم والصحة، مثلا، ليس مسألة توزيع فحسب، بل يرتبط بالحرية والقدرة الفعلية على الولوج إلى الفرص المتاحة. ويعتبر هذا التباين المحدد للتفاوتات الاجتماعية والمجالية، والتي باتت مصدرا للعديد من التوترات"، حسب رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان.

وتابعت بوعياش أن "العدالة، باعتبارها قيمة تأسيسية للتنمية العادلة والشاملة، تُبنى من خلال مقاربة تضمن إدماج الفئات الأكثر هشاشة وحرمانا، مع ضمان تكافؤ الفرص في الولوج إلى المرافق والخدمات العمومية الأساسية. فالعدالة، بهذا التصور، لا تُقاس فقط بمنظور كميّ؛ أي بعدد المستفيدين من التنمية، بل تُقاس، أيضا، بمنظور نوعيّ؛ بحيث يُؤخذ بعين الاعتبار الوضع الاجتماعي والاقتصادي للفئات المستهدفة".

وأوضحت أن "أحد الأسباب الجوهرية للفجوة العميقة بين الموارد الهائلة التي تُخصّص للسياسات العمومية الاجتماعية وبين أثرها الفعلي يظل رهينا بإرساء عدالة تُقلّص التفاوتات الاجتماعية والمجالية، وتُوجّه السياسات نحو تحول نوعي في حياة الأفراد".

وفيما يخص القيمة الرابعة، سجلت بوعياش أنها التضامن؛ "حيث تشكل مرتكزا رئيسيا للاختيارات التنموية، بوصفه قيمة إنسانية راسخة تقوم على مقومين جوهريين؛ هما وعي الأفراد بوحدة مصيرهم المشترك، وما يترتب عن هذا الوعي من رغبة تلقائية في التعاون والتآزر والتكامل لمواجهة التحديات وتذليل العقبات".

وأبرزت أن "الأزمات التي عشناها أثبتت أن قيمة التضامن متجذرة في الموروث الثقافي المغربي، وأنها تتجدد بأشكال مختلفة. وتُظهر تجربتنا التاريخية زخما من الممارسات التضامنية في سياق محن وتجارب صعبة عشناها ساهمت في صقل هوية المجتمع وتعزيز وعيه بذاته"، مضيفة أن "هذه القيم تعتبر ناظمة للتوجهات الإستراتيجية للتنمية، وتمثل أفقا كونيا"، وأن "تفعيلها يظل مشروطا بعملية دائمة ومستمرة من التكييف والملاءمة مع التحولات المجتمعية".

كما سلطت الضوء على بعض المسارات الممكنة للنهوض بالقيم المحفزة للتنمية، موضحة "أن تطور منظومة الحقوق والحريات لم يكن نتاجا أحادي المصدر أو مقتصرا على تجربة حضارية بعينها، بل هو ثمرة تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية وقيمية متداخلة، عابرة للثقافات والتجارب التاريخية، كنتيجة لحوارات وتجاذبات وسجالات فكرية متعددة الأطراف أخذت في الاعتبار خصوصيات المجتمعات".

وأشارت بوعياش إلى أن "مقاصد الإسلام تؤكد على مجموعة من القيم الثابتة التي تعكس مبادئه السامية، وفي الوقت ذاته، تتمتع بقدر من المرونة تتيح التكيف مع مختلف السياقات التاريخية والاجتماعية. فمفاهيم مثل العدل، والمساواة، والكرامة الإنسانية، والحرية، تشكّل إطارا عاما لتنظيم المجتمع، بما يضمن تحقيق التوازن بين مقاصد الدين ومتطلبات العصر الحديث. ومن المفيد في هذا الإطار عدم التعامل مع الإنسان ككائن ثابت الطبيعة، لا تؤثر فيه التحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها، لتفادي خلق فجوة بين إيمانه وبين الواقع المتغير الذي يحيط به. ومن هنا، يصبح الاجتهاد ضرورة ملحّة، ليقدم إجابات لتحديات متجددة تعترض مسارات التنمية وكرامة الإنسان".

وتساءلت المتحدثة نفسها: "علينا أن نتساءل من هذا المنطلق، هل يؤدي تغييب الحس النقدي إلى تفادي الإشكالات التي يعاني منها المجتمع؟ الإجابة هي بالتأكيد لا؛ لأن التحولات المجتمعية والتطلعات الإنسانية لا تتوقف، بل تتطور؛ منها الذاتي، ومنها المرتبط بسياقات أوسع. فالحاجة إذن إلى اجتهاد فقهي معاصر يراعي هذه المتغيرات، عبر حوار متعدد الأطراف منفتح على الآفاق الفلسفية المختلفة، تبدو ضرورة لا غنى عنها".

وأضافت أن "الإسلام الوسطي المعتدل يقوم على الإعلاء من شأن قيم جوهرية للإنسان، والتي قد لا تتحقق مقاصدها الفعلية عندما يكون هناك محدودية التفكير النقدي والعقلانية، وهو ما يُعيق مواجهة التحديات المعاصرة، ويُضعف المناعة القيمية للفرد والمجتمع. وتتجلى أهمية ترسيخ اعتماد العقل لبناء منظومة القيم في تشجيع التفكير الحر والعقلاني؛ بحيث يصبح الالتزام بالقيم الدينية نابعا من اقتناع عميق. وأذكر هنا بما أثاره ابن رشد من أهمية العقل في فهم النصوص الدينية، وتفسيرها في ضوء التفكير المنطقي لتحقيق المقاصد الإنسانية العليا".

وأبرزت بوعياش أن "تعبئة الأفراد والجماعات للانخراط في مسار التنمية تتطلب، أيضا، منظومة أخلاقية عقلانية تُنمي الفكر النقدي، وتطور المبادرات، وتحث على الابتكار. فتنمية العقل وحمايته من التجهيل والتزييف ليست مجرد حاجة معرفية، بل واجبٌ شرعي ومجتمعي لتعزيز دور المواطن والمواطنة كفاعلين ومستفيدين من التنمية. ونعتبر أن التحصين والتمنيع الفكري يتأسس على تعليم يحفز البحث العلمي، ويشجع الاجتهاد الفقهي لتقديم أجوبة عملية ومنهجية لقضايا الحياة اليومية، ويُنمي قدرة الأفراد على مساءلة الوقائع، ويعزز مهارات التحليل والتفكير المنهجي لديهم، بما يمكنهم من التفاعل الواعي مع الإشكالات المجتمعية بما فيها التنموية".

وفيما يخص التكامل بين العبادات والمعاملات لرفع حس المسؤولية لدى المواطنين، سجلت رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان أن "المناهج التعليمية تركز على الجوانب الفقهية للعبادات، من حيث شروطها، وأركانها، وكيفية أدائها، ومحدودية الجوانب الأخلاقية والسلوكية التي تُشكّل جوهر هذه العبادات"، معتبرة أن "هذا النهج التلقيني يُضعف قدرة الأفراد على استيعاب الأبعاد الروحية للدين؛ حيث يتم التعامل معهم كمجرد متلقّين، دون تحفيز التفكير النقدي أو تطوير فهم عميق لمقاصد الإسلام، وهو ما من شأنه أن يوسع الفجوة بين العبادات والمعاملات".

واسترسلت بوعياش: "إصلاح المناهج التعليمية وتجديد الخطاب الديني ليس ترفا فكريا، بل ضرورة لضمان التفاعل مع متغيرات العصر، وتعزيز مقاصد الدين كقوة مُحركة لتعزيز القيم الإنسانية، ومرتكزات التنمية، والربط بين المقاربات التي تركز على الجوانب الشعائرية بعلاقتها بالمعاملات. إن تعزيز الربط بين الفقه المقاصدي، والتربية على القيم، والانفتاح الفكري، يشكل مدخلا أساسيا لإنتاج خطاب ديني متجدد قادر على تطوير مشاركة المجتمع في التنمية، باعتبارها قضايا تهم حياتهم اليومية".

وختمت كلمتها: "واسترشادا بما تقدم، نعتبر كلا من مقاصد الإسلام وحقوق الإنسان ركائز أساسية للرقي بالقيم الإنسانية وتحقيق التنمية المستدامة. وعلى الرغم من اختلاف الأسس التي تقوم عليها كل منهما، فإنهما قد يلتقيان في تعزيز القيم المشتركة؛ مثل العدالة، والمساواة، والكرامة الإنسانية، ونشر التوعية بحقوق الإنسان وثقافة المواطنة، وتعزيز الاجتهاد لملائمة القيم الإنسانية المشتركة والقوانين الوضعية، لضمان انتصاف قانوني وتنمية مستدامة".