قررت إذن، رفقة عبد الله الصنهاجي، مغادرة الدار البيضاء، باتجاه المنطقة الخليفية حتى تهدأ الاوضاع قليلا، وذلك في الوقت الذي كنت - أنت والزرقطوني على رأس المطلوبين بعد اعتقال منصور، كيف كانت الرحلة الى الشمال· وهل واجهت بعض المصاعب قبل الوصول الى تطوان؟
لم تكن الرحلة خالية من المصاعب، وكنا قد وضعنا خطة لتجاوز الحدود المصطنعة في عرباوة وعدم الوقوع في أيدي حرس الحدود· كنا ثلاثة، أنا وعبد الله الصنهاجي وشخص ثالث اسمه الرحموني· وصلنا الى منطقة الحدود في الليل، كان الصنهاجي بحكم قامته الطويلة يسرع الخطى، وقد سبقنا خلال المسير لمسافة غير قصيرة· وبقينا أنا والرحموني وراءه، فجأة وجدنا انفسنا وجها لوجه أمام حرس الحدود· كانوا عدة أفراد، كل واحد منهم يمتطي فرسا ومتأهبا لإلقاء القبض لكل من يحاول التسلل، بدؤوا يصيحون في وجهنا ويطلبون منا التوقف· لم أذعن لأوامرهم، وصحت في وجه الرحموني طالبا منه الإسراع بالفرار· ذهب هو في اتجاه وأنا في اتجاه آخر· كنت أسرع بكل ما أوتيت من قوة وأحد حراس الحدود ورائي على حصانه· لا أخفي عليك أني في تلك اللحظات أحسست بأني سأقع في يده لا محالة، فلا يمكن أن أسبق الحصان مهما كانت مقدرتي· لكن العناية الإلهية كانت مرة اخرى في جانبي ·
كيف ذلك، كيف تمكنت من الإفلات وأنت ملاحق هكذا؟
كنت أضع جلابة فوق كتفي، وأنا أعدو بسرعة، شعرت بأنها تضايقني، فرميتها ورائي فسقطت مباشرة فوق رأس الحصان الذي لم يعد يرى أمامه فتعثر، كانت تلك فرصة ذهبية، فلم أضيعها، بالقرب من هناك، كان وادي عميق، فنزلت إليه وغطست· ظل حارس الحدود الذي كان يتعقبني يقطع المنطقة ذهابا ورجوعا دون ان يعثر على أثري، الى أن يئس وغادر المكان· انتظرت مدة، حتى أطمئن، ثم نهضت وتابعت طريقي.
ماذا كان مصير الرحموني؟
لم يكن محظوظا، فقد ألقي عليه القبض
هل كان هو الدليل الذي من المفترض أن يساعدك أنت والصنهاجي في اجتياز الحدود؟
كلا· كان واحدا من بين المقاومين· من مدينة العرائش، الدليل الذي كان معنا، او "المراسل" كما كنا نطلق عليه انذاك فقد تجاوزنا مع الصنهاجي
بعد ان أفلتت من قبضة حرس الحدود، ماذا فعلت؟
واصلت السير الى أن التقيت ببعض الاشخاص· اخبروني انهم رعاة مكلفون بمراقبة ماشية في ملك قائد المنطقة· سألتهم عن الطريق المؤدية الى العرائش· فبادرني أحدهم قائلا: هل انت من الداخل، أجبته: نعم· فقال لي: سأرافقك الى أن تصل إلى الطريق المؤدية إلى العرائش: لكن بعد أن يحل الصباح، رفضت وأفهمته أني لا أنوي البقاء في هذه المنطقة· وسلمته مبلغ 15 ألف فرنك - 3 الاف ريال فقبل ورافقني· لكن وبعد أن قطعنا مسافة قصيرة توقف وطلب مني المزيد من النقود، أخبرته بأني قد أعطيته كل ما بحوزتي· لكنه لم يصدق، فبدأ يفتش جيوبي· في الواقع كان معي مبلغ محترم من المال، وقد خبأته في سروالي، لكنه لم يعثر عليه· عندما يئس، قال لي بأنه لا يريد اأن يواصل السير معي، فرجوته أن يبقى معي لبعض الوقت حتى أصل الى الطريق المؤدية الى العرائش، وبعد أخذ ورد قبل ان يظل معي مدة قصيرة· وفي الطريق طلبت منه عصا كانت معه· مدعيا أني اريد أن اتكئ عليها بعدما اشتد بي التعب· فسلمها لي، وبسرعة هويت بها عليه فسقط أرضا، واخذت منه 15 ألف فرنك التي كنت قد سلمتها له من قبل، وأسرعت بعيدا· ظللت أواصل السير الى أن بدأت تلوح أولى خيوط الصباح· عندما وصلت الى احد الدواوير في الكوخ الاول الذي وصلت اليه طلبت من سيدة هناك ان تدلني على طريق العرائش· فقالت لي: هناك فوق: ولم تضف شيئا، ولأني لم أعرف الاتجاه الذي تقصد هذه السيدة ذهبت قرب أحد الاكواخ وجلست التقط انفاسي بعدما هدني التعب· وفجأة خرج رجل يقتاد قطيعه· فسألته عن طريق العرائش، اقترب مني وحدق في برهة ثم طلب مني أن التزم الصمت، مشيرا الى بعض الخيام المنصوبة غير بعيد عنا، في هذه الخيام كان بعض الحرس· لم أشعر بوجودهم، ولولا هذا الرجل الطيب الذي دلني على طريق النجاة لكنت قد وقعت في أيديهم.
مثلما كان هناك اشرار فأمثال الراعي الذي حاول سرقتك كان هناك طيبون
بالفعل، ولولا طيبوبة هذا الشخص ودهاءه لكنت قد وقعت في أيدي حرس الحدود، الحاصل واصلت السير الى أن وصلت الى دوار سيدي "لهواورة" كنت جائعا بعد مدة طويلة لم اذق فيها شيئا· قصدت دكانا هناك وطلبت منه قليلا من الحمص· وعندما سلمته النقود رفض اخذها قائلا بأنها "نقود الداخل" لا يتم تداولها هنا ، أعدت له الحمص وتسلحت بالصبر مواصلا السير، الى أن وصلت الى سوق يسمى سوق "لعمامرة" هناك غيرت النقود التي كانت معي بالعملة الاسبانية "البسيطة" وما ان تسلمتها حتى قصدت خيمة يعد صاحبها الشاي والأكل·
أصبحت اذن في منأى من حرس الحدود
نعم، فقد احسست بزوال الخطر لأني اصبحت في "المنطقة الخليفية" التي كانت تقع انذاك تحت الاحتلال الاسباني· بعد ذلك ركبت الحافلة المتوجهة الى العرائش· مازلت أذكر صاحب الحافلة عندما طلب مني ثمن التذكرة ،بسطت له ما كان عندي من نقود اسبانية لجهلي بقيمتها، فاخد ما أراد· في تلك الاثناء لم أكن مهتما بهذه التفاصيل كل ما كان يهمني هو الوصول إلى العرائش
وبعد وصولك الى هنالك؟
عندما وصلت الى العرائش، وكانت المرة الاولى التي ازور فيها هذه المدينة توجهت الى حديقة قريبة وجلست هناك افكر فيما يجب علي القيام به، وفجأة رأيت المقاوم سليمان العرايشي، رحمه الله، يسير بالقرب من الحديقة، فناديت عليه، عانقني وهو غير مصدق، اخبرته بكل ما جرى، وكيف اني كنت مع عبد الله الصنهاجي، وافترقنا قرب الحدود، طمأنني ورافقني الى منزله، وبعد ان استرحت توجهت الى الحمام، ومرة أخرى لعبت الصدف الجميلة لعبتها، فما ان ولجت الحمام حتى وجدت الصنهاجي هناك، وكأننا كنا على موعد· كان الاخوة في العرائش وتطوان يعتقدون انني قد وقعت في أيدي حرس الحدود· وذلك بعد ان تأخرت في الوصول· بعد أيام من وصولي الى العرائش توجهت الى تطوان· هناك اتصلت بالمرحوم احمد زياد، الذي كان مسؤولا عن اللاجئين، حاول ان يرافقني الى أماكن تواجدهم· ليجد لي مكانا بينهم فرفضت، اخبرته اني لا أنوي اللجوء، وان مقامي في تطوان لن يدوم طويلا· عندها رافقني الى منزل احد الاخوة، ويدعى "عبد العزيز لعميري" واختبأت هناك مدة ثلاثة اشهر، وكنت بين الفينة والأخرى اغادر المنزل مدة قصيرة وأعود·
وماذا عن عبد الله الصنهاجي؟
ظل في العرائش قبل ان ينتقل الى القصر الكبير
ولماذا رفضت الانضمام الى مكان تواجد اللاجئين
انا لم أكن أنوي البقاء هناك طويلا، فقد وعدت الشهيد الزرقطوني أن أعود بعد ثلاثة اشهر الى الدار البيضاء، كما ان انتقالي للعيش رفقة عدد كبير من اللاجئين، كان من شأنه ان يكشفني، وهو ما كنت أحاول أن أتجنبه، لأني قررت العزم على العودة الى الدار البيضاء·
ستعود فعلا بعد انصرام ثلاثة أشهر، لكن الزرقطوني كان قد استشهد قبل ذلك·
نعم، عدت بعد أسبوع واحد بالضبط من استشهاد الزرقطوني
وكيف علمت بالخبر؟
عن طريق الجرائد، كانت صدمة كبيرة بالنسبة لي ومازلت إلى الآن أتذكر آخر لقاء بيننا لحظة الوداع تلك التي لم يستطع الشهيد ان يحبس دموعه· أحسست أن مسؤوليتي ومسؤولية القيادة اصبحت جسيمة، وانه علينا ان نواصل الكفاح مهما كان الثمن· واننا يجب ان ننتقم لروحه الطاهرة بتوجيه ضربة موجعة للاستعمار وإفهامه انه رغم الخسارة التي خلفها استشهاد هذا البطل فإن المقاومة ستستمر· هكذا وبعد أسبوع بالضبط غادرت تطوان عائدا الى قلب المعركة في الدار البيضاء ·