بينما تتهاوى الموارد الخارجية في إفريقيا.. كيف نجح المغرب في تثبيت نموذج تمويلي داخلي؟

بشرى الردادي

في وقت تمر فيه القارة الإفريقية بمنعطف مالي حرج، يتّسم بانكماش حاد في تدفقات المعونة الخارجية، وتضخّم غير مسبوق في كلفة خدمة الدين، تبرز تجربة المغرب كاستثناء لافت في معادلة التمويل السيادي.

ففي ظل سياق يتسم بتراجع المنح الخارجية بنسبة 24 في المائة، منذ عام 2010، وفقدان إفريقيا 11 نقطة من حصتها في المساعدات الدولية خلال عقد واحد، استطاع المغرب أن يعيد هيكلة نموذجه المالي من الداخل، مُعتمدا على تعبئة موارد محلية، وتفعيل أدوات سيادية للتمويل، وتحقيق توازن دقيق بين متطلبات النمو وأعباء الدين.

تقرير "الحقائق والأرقام 2025" الصادر عن المؤسسة الإفريقية "Mo Ibrahim"، والذي يأتي في سياق الإعداد لقمة "تمويل إفريقيا التي نريد"، يرسم صورة قاتمة للمشهد الإفريقي العام، لكنه يسلط الضوء، في الوقت ذاته، على تجارب محدودة؛ من بينها المغرب، نجحت في الخروج من دائرة الاعتماد على الخارج، والتحول إلى نموذج تمويلي داخلي يتميز بالكفاءة، والاستقرار النسبي، والقدرة على مواكبة أجندة 2063 عبر أدوات وطنية.

تجربة المغرب ليست فقط قصة أرقام ناجحة، بل نموذج لإرادة سياسية ومؤسسية في زمن تراجعت فيه الخيارات التقليدية، وتقلصت فيه هوامش المناورة المالية أمام أغلب الدول الإفريقية. في هذا السياق، تكتسب التجربة المغربية أهمية مزدوجة: أولا؛ كخيار استراتيجي للتمويل في حقبة ما بعد المعونة، وثانيا؛ كحالة دراسية قد تشكل مسارا بديلا لباقي دول القارة الساعية إلى استعادة سيادتها المالية.

جباية متقدمة ومؤسسات سيادية فعالة

وأحرز المغرب معدل تعبئة ضريبية بلغ 21.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، متجاوزا المتوسط الإفريقي البالغ 16 في المائة، ومُتقدما على الجزائر (11 في المائة) ونيجيريا (7.4 في المائة)، بينما يقترب من مستويات جنوب إفريقيا (27.5 في المائة)، ويتفوق على مصر (17.1 في المائة). كما يحتل المغرب الصدارة في تحصيل الضرائب العقارية بنسبة 1.5 في المائة من الناتج المحلي، مقارنة بـ0.9 في المائة في جنوب إفريقيا، و0.6 في المائة في مصر، مع غياب شبه كلي لهذا النوع من الضرائب في نيجيريا والجزائر، وهو الأداء الذي يعكس نضج الإدارة الضريبية واعتماد آليات رقمنة متطورة للرقابة والجباية.

وفي إطار تعبئة الموارد الداخلية، استخدم المغرب صناديق التقاعد – وعلى رأسها صندوق الإيداع والتدبير (CDG) – لتمويل قطاعات استراتيجية؛ مثل العقار والبنية التحتية، وهو نهج يتقاطع مع تجربة جنوب إفريقيا.

ويُبرز التقرير صندوق "إثمار كابيتال" كأداة سيادية مبتكرة في تمويل مشاريع الاقتصاد الأخضر، من خلال شراكات مع مؤسسات؛ مثل البنك الأوروبي للاستثمار. وتُعزز هذه الآليات تموضع المغرب داخل مجموعة "IGW"، التي تضم الاقتصادات الإفريقية الأكثر قدرة على تطوير أدوات تمويل محلية مبتكرة: مصر، ونيجيريا، وجنوب إفريقيا، وكينيا، والمغرب. وتشير مؤسسة "Mo Ibrahim" إلى أن تعزيز تعبئة الموارد المحلية هو الخيار الوحيد المتبقي لتحقيق أهداف أجندة 2063، ما يتقاطع بوضوح مع النموذج المغربي.

دور استراتيجي في الأسواق والموارد

ويمتلك المغرب 67.6 في المائة من الاحتياطات العالمية للفوسفات؛ ما يضعه في موقع محوري ضمن سلاسل التوريد العالمية للأسمدة. كما يُعد ضمن الدول الخمس الأكثر تصديرا للمواد الخام، إلى جانب نيجيريا، وجنوب إفريقيا، ومصر، وتوغو، لكنه يتميز عن هذه الدول بتنوع صادراته نحو قطاعات تحويلية تشمل السيارات، والطاقة الشمسية، والزراعة الصناعية، وهو ما لا يتوفر بنفس القوة في الدول الأخرى المذكورة. ويأتي ذلك انسجاما مع توصيات التقرير الداعية إلى الانتقال من تصدير المواد الخام إلى تعميق القيمة المضافة محليا، عبر تعزيز سلاسل القيمة الصناعية.

كما برزت مدينة مراكش كمركز مالي وإقليمي جديد، باحتضانها مؤسسات مالية ولقاءات استراتيجية، وهو تموقع مرشح للتعزيز مع استعداد المملكة لاحتضان قمة "COP29"؛ ما يمنح المغرب منصة لتعزيز دوره في تمويل التحول المناخي على مستوى القارة واستقطاب استثمارات خضراء جديدة.

انضباط مالي مقارنة بالاقتصادات الكبرى

وحافظ المغرب على معدل خدمة دين لا يتجاوز 7.9 في المائة من إجمالي الدين العمومي، عام 2023، مقارنة بـ23.5 في المائة في أنغولا، و14.5 في المائة في تونس؛ ما يعكس توجها واضحا نحو تمويل المشاريع الاستثمارية بدل اللجوء إلى الاستدانة لتغطية النفقات الجارية.

ويُعد المغرب الدولة الوحيدة ضمن المجموعة الخماسية (المغرب، مصر، نيجيريا، الجزائر، جنوب إفريقيا) التي تمكنت من تحسين مؤشراتها المالية دون زيادة عبء الدين الخارجي، وذلك رغم الانكماش الحاد في التمويلات الأجنبية.

تحليل "SWOT" للنموذج المالي المغربي

ويعكس تحليل "SWOT" للنموذج المالي المغربي مجموعة من الخصائص البنيوية التي تميز أداء المملكة مقارنة بنظرائها في القارة. من حيث نقاط القوة، يتمتع المغرب بأداء ضريبي مرتفع وفعّال مقارنة بالمتوسط القاري، ويملك أدوات سيادية نشطة؛ مثل صندوق الإيداع والتدبير وصندوق "إثمار كابيتال"، التي تساهم في تمويل مشاريع تنموية كبرى. كما أن تموقعه الاستراتيجي في سلاسل التوريد العالمية، خاصة في قطاع الفوسفات، يعزز من نفوذه الدولي، إضافة إلى قدرته على الحفاظ على مستوى منضبط من خدمة الدين مقارنة بجيران إقليميين كبار.

وفي سياق تعاظم التحديات البيئية، يشكل التغير المناخي فرصة استثنائية لتعزيز التمويل المستدام في المغرب. واحتضان المملكة لقمة "COP29" يؤكد التزامها بدور محوري في تمويل التحول المناخي على المستوى القاري؛ مما يفتح آفاقا واسعة لاستقطاب الاستثمارات الخضراء، وتطوير أدوات تمويل مبتكرة تراعي البعد البيئي. هذا التوجه يعزز من جاذبية المغرب كشريك مالي موثوق في المساعي الدولية لمواجهة التغير المناخي، ويدعم استدامة النمو الاقتصادي ضمن إطار أخضر مستدام.

أما نقاط الضعف، فتتمثل في استمرار الاقتصاد غير المهيكل بنسبة مرتفعة، وضعف التغطية الاجتماعية، والتفاوت المجالي في توزيع الاستثمار العمومي، إلى جانب هشاشة بعض مؤسسات تعبئة الموارد على المستوى المحلي؛ كالجماعات الترابية التي لا تزال محدودة الإمكانات.

في المقابل، تتوفر فرص واعدة للنمو؛ أبرزها الطفرة المتوقعة التي قد تصل إلى 429 في المائة في بعض القطاعات الصناعية خلال العقد المقبل، إضافة إلى احتضان المغرب لقمة "COP29"؛ ما يمنحه فرصة لتسويق نفسه كمركز مالي بيئي إفريقي، في وقت تتزايد فيه ثقة المؤسسات الدولية في بنيته التحتية المالية وقدرته على تدبير شراكات استثمارية مستدامة دون اللجوء إلى ديون مرهقة.

ومع ذلك، لا تخلو البيئة المالية من تهديدات هيكلية؛ من بينها تزايد الضغط الديمغرافي وارتفاع الطلب على الوظائف والخدمات الأساسية، ومخاطر تقلب الأسعار العالمية للمواد الخام التي يعتمد عليها جزئيا، إلى جانب احتمال تباطؤ وتيرة الشراكات الدولية في حال تأخر تنفيذ الإصلاحات المرتبطة بالشفافية والعدالة المجالية.

ولا يحقق المغرب فقط أداء ماليا قويا، بل يقدم نموذجا قابلا للتوسع والتأثير في القارة. ومع استكمال إصلاحاته الجبائية والاجتماعية، وتثبيت موقعه كمركز مالي منفتح على إفريقيا وأوروبا، يُمكن للمغرب أن يصبح، بحلول عام 2030، أحد صناع القرار المالي في الجنوب العالمي، بشرط تجاوز العقبات البنيوية التي لا تزال تقف أمام نموذج تنموي شامل ومستدام.