تأملات مغربية الجزء الأول.. المغرب بين دروس التاريخ وإرادة المستقبل

تيل كيل عربي

بقلم ناجي العماري

وأنا أستمع إلى الشهادة التي أدلى بها المناضل عبد الجليل طليمات قبل عشرين عامًا أمام هيئة الإنصاف والمصالحة، استوقفتني هذه العبارة: "أمل أن شهادتي هاته ستستشرق آمالًا أكثر مما تفتح جرحًا".

وأمام ما يحدث اليوم، وفي محاولة لفهم الأحداث، أطرح السؤال التالي:

من أين نبدأ؟

إذا أردنا فهم الوضع الراهن في المغرب، فإن السؤال الأهم ليس السؤال الذي طرحه عبد الجليل طليمات قبل عقدين "كيف حدث ما حدث؟" بل "كيف قبلنا أن نصل إلى هنا؟" فالمسألة ليست مجرد أزمات اقتصادية أو اجتماعية، بل أزمة وعي جماعي وانكسار العقد الذي يربط المجتمع بمؤسساته.

"المفهوم الجديد للسلطة"، هذا الشعار الذي بشّر بمستقبل واعد، يبدو اليوم مجرد ذكرى فارغة. فهل كان حقًا مفهومًا جديدًا، أم إعادة صياغة لشكل قديم بأدوات أكثر براعة؟ كما قال كارل ماركس: "إن التاريخ يعيد نفسه، المرة الأولى كمأساة، والمرة الثانية كمهزلة".

ماذا نفهم؟

المغرب يعيش اليوم أزمة اقتصادية خانقة ليست وليدة اللحظة، بل نتاج سياسات استجابت لتوجيهات المؤسسات الدولية الرأسمالية أكثر مما عبّرت عن إرادة وطنية. هذه السياسات لم تُثقل كاهل الدولة فقط، بل عمّقت الفجوة الاجتماعية، لتتركنا أمام سخط شعبي متزايد دون أن يتحول هذا السخط إلى فعل سياسي منظم.

لكن هل يكفي أن نلوم المؤسسات الدولية؟ أم أن المسؤولية الحقيقية تكمن في نخبة اقتصادية وسياسية راكمت الثروات باستخدام أدوات الدولة؟ هنا يتجلى الجشع الذي وصفه إنجلز مرةً بأنه "نقطة النهاية لكل نظام رأسمالي، حيث يتحول الاستغلال إلى قانون طبيعي".

كما إن تحالف حفنة من الرأسماليين مع الفعل السياسي هو ما أنتج للبشرية في عشرينيات وثلاثينيات وحتى منتصف الأربعينيات من القرن الماضي الظاهرة التي سُميت في إيطاليا بـ"الفاشية"، حيث كان تعريفها الأول هو استحواذ الفاعل الاقتصادي على الأداة السياسية لتدبير الشأن العام. أو كما قال جوزيف ستالين: "الفاشية ليست سوى دكتاتورية أموال الرأسماليين، حيث يمسك الأثرياء بزمام السلطة السياسية لتحقيق مصالحهم الطبقية".

غياب الفعل وحتمية الانفجار

ما يثير القلق أكثر من السخط الشعبي هو غياب الإطار الذي يمنحه معنى. مجتمع يعيش شعورًا بالضيق والإحباط وانسداد الأفق، دون أن تتحول هذه المشاعر إلى مشروع سياسي أو فكري منظم. كما قال جوزيف ستالين: "الأفكار التي لا تتحول إلى أفعال، تبقى حبيسة الرفوف."

هذا الغضب، إذا تُرك دون توجيه، قد يتحول إلى انفجار غير محسوب، لحظة غضب عارمة بلا قيادة ولا بدائل. في هذا السياق، يبقى السؤال مفتوحًا: أين الفاعل المدني؟ أين التنظيمات التي تنقل الشعور الفردي إلى مشروع جماعي؟

الفاعل المدني بين الحضور والغياب

دور الفاعل المدني ضرورة لا اختيار، ومع ذلك يبدو اليوم غائبًا أو مُغيبًا. البعض يرى أن الدولة تعمدت إفراغ الساحة من الفاعلين الحقيقيين، بينما يرى آخرون أن الفاعلين فقدوا القدرة على مواكبة تطورات المجتمع.

غياب الفعل المدني ليس مجرد اختيارات سياسية خاطئة، بل أزمة مشروع ورؤية. وكما قال فلاديمير لينين: "الثورات لا تحدث بسبب الأزمات، بل بسبب العجز عن إيجاد حلول لها."

دروس لم تُستوعب

تاريخيًا، لعبت الأحزاب التقدمية دورًا جوهريًا في بناء الجسور بين الشارع ومؤسسات الدولة. لكنها خانت ذاتها عندما انغمست في البراغماتية السياسية وتخلت عن دورها النضالي. الخطيئة الكبرى كانت عندما قبلت، في 2002، التخلي عن المنهجية الديمقراطية.

هذا التخلي لم يكن مجرد خطأ سياسي، بل إعلان عن انقطاع الصلة بين الأحزاب وقواعدها الشعبية، وترك الساحة فارغة لتملأها قوى مناهضة لمشروع التقدم والديمقراطية.

الخطيئة الثانية أو التحالف مع النقيض

أزمة القوى التقدمية تفاقمت عندما لجأت إلى تحالفات وصفها لينين بأنها "أسوأ ما يمكن أن تفعله حركة تقدمية، عندما تتجاهل التناقضات الأساسية وتساير قوى تعادي جوهر مشروعها."

كيف لمن ناضل من أجل إصلاح المجتمع أن يتحالف مع من يعتبر هذه الإصلاحات كفرًا؟ كيف لمن يؤمن بالوطن أن يتحالف مع من يحلم بالخلافة؟ هذا التحالف لم يكن فقط أزمة في الخيارات السياسية، بل كان إعلانًا عن فشل رؤية بأكملها.

النهاية أم البداية؟

إذا كان التاريخ يعلمنا شيئًا، فهو أن الأزمات ليست النهاية، بل لحظة اختبار: إما أن تُنتج مشروعًا جديدًا، أو تغرق في فوضى بلا أفق. وكما قال إنجلز: "لا تُستجمع الشجاعة للتقدم الحقيقي إلا إذا حفزتها الآلام التي تبدو فائقة."

السؤال اليوم ليس عن ما فعلته الدولة فقط، بل عن مسؤولية المجتمع بأكمله: هل نحن قادرون على تجاوز الخيبة؟ هل نملك الشجاعة لإعادة بناء الثقة؟

ما هو مؤكد أن نهاية الأمل تعني نهاية كل شيء. لكن التاريخ يثبت دائمًا أن الأمل كما طائر الفينيق يمكن أن يُبعث من تحت الركام، إن امتلكنا الشجاعة لذلك.