بقلم ناجي العماري
في سياق التأملات التي بدأناها، تناولنا في الجزء الأول دروس التاريخ وإرادة المستقبل، وفي الجزء الثاني طرحنا أسئلة حول السلطة والمواطنة. الآن، نصل إلى نقطة محورية في بناء أي مشروع وطني، وهي الاقتصاد. فالاقتصاد لا يتوقف عند مجرد الأرقام أو المؤشرات؛ إنه تجسيد لاختيارنا الجماعي وطموحاتنا كمجتمع قادر على التفاعل مع تحديات العصر.
أزمة هيكلية واضحة
لطالما ساد في المغرب نهج اقتصادي نيوليبرالي سعى إلى الربح السريع على حساب رفاه الإنسان، وهو ما خلف آثارًا غير مستدامة. الخصخصة التي طالت قطاعات حيوية مثل الصحة والطاقة لم تساهم إلا في تعميق الفجوات الاجتماعية وزيادة هشاشة الطبقات الوسطى. في 2023، سجل التضخم ارتفاعًا كبيرًا بلغ 6.6%، مما أثر سلبًا على القدرة الشرائية للمواطنين. بالإضافة إلى ذلك، فإن حوالي 19.8% من الأسر المغربية تجد نفسها تحت خط الفقر أو في حالة هشاشة اقتصادية. أما البطالة، فقد بلغت 21.3% في 2024، وهي إشارة واضحة إلى هشاشة الاقتصاد الذي يعتمد بشكل مفرط على الاستيراد، الذي يشكل 44% من احتياجاته.
هذه الأرقام تبرز مدى التبعية الاقتصادية التي يعاني منها المغرب، مما يحد من قدرته على مواجهة التحديات الداخلية. الحل يكمن في تطوير القطاعات الإنتاجية المحلية، وعلى رأسها الزراعة التي رغم كونها تشغل 40% من اليد العاملة، لا تساهم إلا بـ 12% من الناتج المحلي الإجمالي. هذا التفاوت يستدعي إعادة النظر في السياسات الاقتصادية الداعمة لهذه القطاعات.
إعادة التفكير في النموذج الاقتصادي
الحل لا يكمن فقط في مقاومة التبعية الاقتصادية، بل في العمل على تطوير القطاعات الإنتاجية وتعزيز الاستقلال الاقتصادي. كما قال فالنتين كاتاسونوف: "النيوليبرالية ليست مجرد نظام اقتصادي، بل أيديولوجيا تعيد ترتيب العالم لخدمة رأس المال على حساب البشر." هذا التصريح يعكس بوضوح الوضع الحالي في المغرب، حيث تسود السياسات الاقتصادية التي تفضل المصلحة الفردية على حساب المصلحة العامة. من هنا، يصبح من الضروري التحول إلى نموذج اقتصادي يقوم على التوازن بين القطاعين العام والخاص، ويعزز من الاستثمارات المحلية، مع إحياء القطاعات الحيوية مثل الزراعة والصناعة.
نموذج اقتصادي إنساني
إن الحل الأمثل يتجسد في بناء نموذج اقتصادي إنساني يتجاوز الاستفادة من الأسواق العالمية. هذا النموذج يجب أن يرتكز على ثلاثة أسس رئيسية. أولاً، السيادة الاقتصادية؛ حيث يجب على المغرب تقليل اعتماده على الخارج وتعزيز إنتاجه المحلي في القطاعات الأساسية مثل الزراعة والصناعة التحويلية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون الاستثمار في الطاقات المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح رافعة أساسية لمستقبل اقتصادي مستدام. ثانيًا، إصلاح النظام الضريبي؛ من الضروري أن يتوفر نظام ضريبي عادل يعيد توزيع الثروات بين جميع فئات المجتمع، خاصة من خلال فرض ضرائب تصاعدية على الشركات الكبرى والأفراد الأكثر ثراءً، مما يمكن من تمويل المشاريع الحيوية ودعم الفئات الهشة. ثالثًا، دعم الاقتصاد التضامني؛ يجب أن تحظى المشاريع الصغيرة والمتوسطة في المناطق القروية بالدعم اللازم، حيث يمكن للتعاونيات أن تلعب دورًا مهمًا في تحسين الدخل المحلي وتشجيع العمل الجماعي.
المصير المشترك
أي نموذج اقتصادي يفتقر إلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الفرص لا يمكن أن يستمر. كما قال دينغ شياو بينغ: "ليس مهمًا لون القط، طالما أنه يصطاد الفئران." هذا يشير إلى أن النجاح لا يُقاس بالنمو الاقتصادي بحد ذاته، بل بقدرته على تحسين ظروف الحياة للمواطنين وتحقيق العدالة الاجتماعية. النمو، إذن، ليس هدفًا بحد ذاته، بل أداة لتحقيق مجتمع أكثر عدالة وكرامة.
وفي ذات السياق، أضاف بوخارين: "من دون تطور الصناعة والتكنولوجيا، لن يكون لدينا القدرة على بناء دولة قوية ومستقلة." هذه المقولة تؤكد على ضرورة دعم القطاعات الإنتاجية، وتحقيق توازن بين التقدم التكنولوجي والعدالة الاجتماعية.
من الأزمة إلى الأمل
في النهاية، يحتاج المغرب إلى رؤية اقتصادية حقيقية قادرة على تجاوز التحديات الاقتصادية الهيكلية. لا يتعلق الأمر بإيجاد حلول نظرية فحسب، بل في بناء استراتيجيات اقتصادية قابلة للتطبيق، بما يتماشى مع التحديات والفرص المتاحة. كما يقول كاتاسونوف: "الاقتصاد يجب أن يكون وسيلة لتحقيق الحرية الإنسانية، وليس أداة للهيمنة."
يتطلب الأمر إعادة التفكير في السياسات الاقتصادية بناءً على العواقب الاجتماعية والسياسية لهذه السياسات. فالمغرب يمتلك الإمكانيات اللازمة لتجاوز أزماته الاقتصادية إذا تبنى سياسات تؤكد على الاستقلال الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. السؤال الأهم اليوم هو ليس كيف يتكيف المغرب مع الاقتصاد العالمي، بل كيف يمكنه أن يتحكم في مصيره الاقتصادي، وأن يحول الأزمات إلى فرص لبناء مستقبل مشترك يعكس تطلعات جميع فئاته.