بقلم: ناجي العماري
وأنا أتأمل في الواقع السياسي المغربي اليوم، يتبادر إلى ذهني سؤال يبدو أكثر جوهرية من مجرد الحديث عن عزوف الشباب عن المشاركة السياسية: هل نحن أمام أزمة مشاركة، أم أننا أمام أزمة أعمق، أزمة نظام بأكمله؟
السياسة ليست مجرد انتخابات أو خطب رسمية، بل هي تعبير عن الصراع داخل المجتمع، انعكاس للبنية الطبقية وعلاقات السلطة. وحينما نجد الشباب خارج المشهد السياسي، فإن السؤال الحقيقي ليس "لماذا لا يشاركون؟"، بل "لماذا لم يعد للسياسة معنى في أعينهم؟".
الرأسمالية، كنظام اقتصادي، لا تهدف إلى الإدماج بل إلى التهميش، الشباب المغربي اليوم يواجه واقعًا من البطالة، الهشاشة الاقتصادية، وغياب أفق واضح، فهل يمكن لمن لا يملك دخله أن يملك قراره السياسي؟ أم أن النظام القائم صنع بيئة تجعل من السياسة مسرحًا تديره نفس النخب، وتظل أبواب التغيير موصدة أمام كل من يحاول كسر هذه الحلقة؟
يقول فلاديمير لينين: "لا يمكن أن يكون هناك ثورة بدون شباب ثوري، كما لا يمكن أن يكون هناك شباب ثوري دون النظر إلى المستقبل بثقة." لكن أين هو هذا الشباب الثوري اليوم؟ هل تم تدجينه بخطابات الاستهلاك واللامبالاة، أم أن غياب مشروع سياسي حقيقي قادر على احتضانه هو السبب الجذري؟
من الغضب إلى الاستقالة الجماعية
لقد علمنا التاريخ أن الشباب لم يكن يومًا على هامش الفعل السياسي. من انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة سنة 1965 مرورا بانتفاضات 1968 في فرنسا إلى ثورات الربيع العربي، كان الشباب دائمًا في طليعة التغيير. لكن الفارق اليوم أن النظام السياسي استطاع، عبر أدواته الأيديولوجية (الإعلام، المدرسة، الدين، القوانين)، تفكيك أي إمكانية لتحويل الغضب الشبابي إلى فعل سياسي منظم.
في المغرب، من حركة 20 فبراير إلى نضالات الأساتذة المتعاقدين، كان الشباب في مقدمة الحراك، لكن النتيجة كانت إما القمع أو الاحتواء، ما ولّد حالة من الإحباط الجماعي. وكما قال لينين: "الثورة لا تصنعها الجماهير الغاضبة وحدها، بل تحتاج إلى تنظيم واعٍ يقودها نحو أهدافها الحقيقية."
ما حدث ليس مجرد عزوف، بل استقالة جماعية من المشهد، حيث تحول الغضب إلى "تذمر فردي" داخل مواقع التواصل الاجتماعي بدل أن يتحول إلى حركة سياسية قادرة على تغيير ميزان القوى.
احتكار السلطة تحت غطاء الإدماج
يروج الخطاب الرسمي لمفهوم "إدماج الشباب في المؤسسات"، عبر خلق لوائح انتخابية خاصة، أو تعيين بعضهم في مناصب سياسية. لكن هذا الحل يبقى شكليًا، لأن الأزمة ليست في غياب الشباب داخل المؤسسات، بل في غياب المؤسسات ذاتها كأدوات تعبر عن مصالحهم الحقيقية.
النظام الانتخابي، بدل أن يكون أداة تمثيلية، أصبح وسيلة لإعادة إنتاج نفس النخب. وكما قال عبد الرحيم بوعبيد: "الديمقراطية لا تُختزل في صناديق الاقتراع، بل في امتلاك القدرة على التأثير الحقيقي داخل المؤسسات وخارجها."
ويذهب جان لوك ميلونشون إلى القول: "المشكلة ليست في من يحكم، بل في من يملك القرار الحقيقي، وعادةً ما يكون خارج اللعبة الديمقراطية."
عندما يعزف الشباب عن التصويت، فهم لا يفعلون ذلك بدافع الكسل، بل لأنهم يدركون أن السياسة، في شكلها الحالي، ليست سوى لعبة تحافظ على النظام القائم، وليس أداة لإعادة تشكيله.
ماذا بعد الإحباط؟
إذا كان الإحباط نتيجة طبيعية لخيبة الأمل المتكررة، فإن تجاوزه لا يكون عبر "دعوات المشاركة" الجوفاء، بل عبر بناء بدائل سياسية حقيقية. ليس المطلوب مجرد تأسيس أحزاب جديدة، بل إعادة تعريف السياسة كأداة للصراع الطبقي والتغيير الجذري.
الرهان اليوم ليس فقط على إدماج الشباب داخل المؤسسات، بل على إعادة ربط السياسة بحاجاتهم المباشرة: الحق في التعليم، في العمل، في الكرامة، في مستقبل لا تحكمه قوانين السوق والتبعية للخارج.
وكما قال عبد الرحيم بوعبيد: "السياسة ليست رفاهية فكرية، بل مسؤولية تاريخية، إما أن نمارسها بوعي، أو نتركها لتقرر مصيرنا دوننا."
أي مستقبل؟
الشباب ليسوا طبقة اجتماعية واحدة، فمنهم من يتماهى مع النظام، ومنهم من يسعى لتغييره. لكن المؤكد أن المستقبل لا يصنعه أولئك الذين يرضخون للواقع، بل من يجرؤون على الحلم بمجتمع أكثر عدالة.
يقول غرامشي: "التشاؤم هو نتاج الفكر، لكن التفاؤل هو فعل الإرادة."
وبين الإحباط والأمل، يبقى الخيار الوحيد أمام الشباب هو تحويل وعيهم الطبقي إلى فعل سياسي منظم، يفرض وجوده داخل الشارع، قبل أن يفرضه داخل المؤسسات.