ناجي العماري
في خضم التحديات الكبيرة التي يواجهها المغرب اليوم، يبدو أن الوقت قد حان للتفكير في إعادة هيكلة النظام السياسي والاجتماعي في البلاد. الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي نعاني منها ليست مجرد مشاكل محلية، بل هي جزء من تحولات عالمية تؤثر على جميع الدول. لذا، يطرح السؤال: هل بإمكان النظام الحالي مواكبة هذه التحديات؟ أم أن الوقت قد حان للتفكير في نموذج جديد يناسب التغيرات التي نعيشها؟
اللامركزية بداية جديدة
الحديث عن الانتقال إلى نظام كونفدرالي ديمقراطي ليس مجرد فكرة بعيدة، بل أصبح ضرورة ملحة بسبب التغيرات الكبيرة التي يشهدها المغرب. الإصلاحات التقليدية التي تقتصر على تغييرات صغيرة لم تعد كافية لمعالجة الأزمات المتراكمة. الحل يكمن في توزيع السلطة بشكل أكثر عدلاً بين المركز والأقاليم، بحيث تُمنح كل جهة القدرة على إدارة شؤونها المحلية وفقًا لاحتياجاتها وأولوياتها.
النظام الكونفدرالي لا يعني تفكيك الدولة أو المساس بوحدتها، بل هو نموذج يعزز التماسك الوطني من خلال تمكين كل جهة من تحقيق تنميتها الذاتية، مع الحفاظ على التعاون بين الأقاليم. يهدف هذا التوجه إلى إعادة تحديد العلاقة بين الدولة والمجتمع بما يضمن توزيع الفرص بشكل متساوٍ بين جميع المناطق.
أفكار عالمية تلهمنا
في هذا السياق، يقدم المفكرون مثل عبدالله أوجلان وموراي بوكتشين أفكارًا قد تكون مفتاحًا لبناء نموذج كونفدرالي ديمقراطي في المغرب. يرى أوجلان أن "الكونفدرالية الديمقراطية" تمنح المجتمعات المحلية الحق في إدارة شؤونها بشكل مباشر، مما يعزز المشاركة الشعبية ويحد من سلطة الدولة المركزية. بينما يدعو بوكتشين إلى نظام لامركزي يعتمد على الديمقراطية التشاركية، حيث تتحمل المجتمعات مسؤولية اتخاذ قراراتها المحلية. في كتابه "الديمقراطية والبيئة: نحو بلدية تحررية", يشدد بوكتشين على ضرورة أن يكون النظام السياسي العادل في قلبه المجتمع والبيئة. هذه الرؤية يمكن أن تساعد المغرب في تطوير نموذج يوازن بين استقلالية الأقاليم ووحدته الوطنية.
اقتصاد أكثر عدلاً
الانتقال إلى نظام كونفدرالي ديمقراطي يتطلب أيضًا تحولًا في الفكر الاقتصادي. الاقتصاد المغربي بحاجة إلى نموذج أكثر عدلاً، حيث يتم توزيع الموارد بشكل جماعي بدلاً من تركيزها في أيدٍ قليلة. في هذا النموذج، يتم استثمار الموارد الطبيعية بما يحقق العدالة بين الأقاليم ويضمن حقوق الأجيال المقبلة.
كما أن التحديات البيئية تتطلب نظامًا اقتصاديًا أكثر وعيًا واستدامة. اللامركزية الاقتصادية تمنح كل منطقة القدرة على تصميم سياسات تنموية تراعي خصوصياتها البيئية والاجتماعية، مما يعزز التوازن بين مختلف الجهات.
العدالة الاجتماعية والمجالية
اللامركزية ليست مجرد إجراء إداري، بل هي وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية. تمكين الأقاليم من إدارة شؤونها يعيد توزيع الثروة والفرص بشكل عادل، مما يقلل الفوارق بين المناطق المختلفة. هذا النموذج يمكن أن يساعد في تمكين المناطق المهمشة من تجاوز التهميش التاريخي، ويجعل التنمية حقًا يُعبّر عنه كل إقليم وفقًا لاحتياجاته الخاصة.
الانتقال السلس
التحولات السياسية الكبرى عادة ما تثير المخاوف من الصراعات والانقسامات، ولكن المغرب يمكنه أن يتجنب هذه المخاوف إذا ما أدار هذا التحول بحكمة. الحوار الفعّال وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع هما المفتاح لضمان الانتقال السلس نحو النظام الجديد. الإرادة السياسية الحقيقية والوعي المجتمعي هما ما سيضمنان نجاح هذا الانتقال، مع الحفاظ على الوحدة الوطنية والتعاون بين مختلف الفئات.
مغربٌ جديد
الانتقال إلى نظام كونفدرالي ديمقراطي ليس مجرد تغيير سياسي، بل هو فرصة حقيقية لإعادة بناء المغرب على أسس أكثر عدلاً. هذا النظام سيمكن الأقاليم من تحقيق تنمية شاملة، ويضمن أن الجميع، بغض النظر عن المنطقة التي ينتمون إليها، سيكون لهم نصيب في تحديد مصيرهم.
قد يكون الطريق نحو هذا التحول مليئًا بالتحديات، ولكنه يحمل في طياته وعدًا بمستقبل أفضل. مغربٌ يعيش فيه الجميع في ظل العدالة والمساواة، حيث تُصبح الوحدة الوطنية مصدر قوة حقيقية، وليست مجرد شعار. إنها فرصة لتجديد العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع بما يتناسب مع تطلعات القرن الواحد والعشرين