ناجي العماري
في سلسلة تأملاتنا المغربية، تطرقنا إلى الأبعاد الاقتصادية والسياسية والتعليمية، ولا بد لنا الآن من مواجهة السؤال الأصعب: ما هي هوية المغرب اليوم؟ كيف يمكننا، كأفراد ومجتمع، إعادة بناء هذا الوطن الذي نحب، والذي شهد العديد من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ هل نحن اليوم على موعد مع انبعاث جديد للهوية المغربية أم أننا نعيش حالة من الفقدان والتشتت؟
الهوية بين التراث والحداثة
لطالما كانت الهوية المغربية موضوعًا غارقًا في التعقيد، بين ماضٍ مليء بالتاريخ والحضارات المتعددة، وحاضر مليء بالتحديات والتمزقات. نحن أمام حالة من الانفصام الثقافي، حيث يحاول البعض الحفاظ على التقاليد العريقة، بينما يسعى آخرون لتحديث الوطن بما يتماشى مع متطلبات العصر. ومع ذلك، قد نغفل أن هذا الانقسام قد يعمق الأزمة بدلًا من أن يحلها؛ وكما قال جوزيف ستالين في كتابه الماركسية والمسألة القومية: "إن الأمة ليست فئة مجردة، بل هي كيان تاريخي تطور على مدى الزمن تحت تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية".
هذا يذكّرنا بأن الهوية المغربية ليست مجرد فكرة جامدة، بل نتيجة لتفاعل ديناميكي بين ماضيها وحاضرها.
ما يحتاجه المغرب هو تقاطع بين التراث والحداثة، وبين الماضي والحاضر، لا من خلال الصراع، بل عبر بناء هوية مركبة تُعبر عن التنوع الذي يميز هذا البلد. الهوية المغربية يجب أن تكون ليست فقط مزيجًا من الثقافات المتعددة التي مرت عبر القرون، بل أيضًا فرصة لبناء مستقبل يظل وفياً لجذوره بينما ينفتح على العالم.
الشباب والمستقبل
إن من أبرز مظاهر الأزمة التي يعيشها المغرب اليوم هو غياب الشباب عن قمة النقاشات السياسية والاقتصادية. رغم أنهم يشكلون النسبة الكبرى من السكان، إلا أن الشباب لا يزالون يعانون من الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي. لكن رغم هذا الواقع القاسي، هناك فرصة كبيرة لتغيير الوضع عبر تمكين هذه الفئة من فرض حضورها في الحقل السياسي والاجتماعي.
التحدي اليوم هو كيف نخلق بيئة تمكن الشباب من إعادة اكتشاف أنفسهم كفاعلين رئيسيين في بناء مستقبل البلد. يجب أن يكون هناك تحول حقيقي في العقلية السياسية، حيث تُعطى فرصة للشباب لتوجيه دفة الوطن نحو المستقبل، سواء من خلال المشاركة السياسية أو من خلال الابتكار في مجالات الاقتصاد والمجتمع.
الاستفادة من دروس التاريخ
من خلال التحديات التي طرحناها في الأجزاء السابقة، نجد أن المغرب يواجه أزمات متعددة في مجالات مختلفة. ولكن لا يمكننا أن ننظر إلى هذه الأزمات كعائق مستمر بل كفرصة لإعادة التفكير في نموذجنا السياسي والاجتماعي، وهنا نجد صدى لما قاله ستالين: "لكل أمة خصائصها، لكن على كل أمة أن تضمن توحيد قواها الداخلية إذا أرادت البقاء والتطور في وجه التحديات".
بهذا المعنى، فإن الهوية المغربية لا يمكن أن تكون سلاحًا للتفرقة أو الانغلاق، بل أداة للتجديد والانفتاح.
إذا كانت الأزمات الاقتصادية قد خلقت فجوات اجتماعية عميقة، وإذا كانت السياسات التقليدية قد فشلت في إيجاد حلول جذرية، فإن الحل يكمن في إعادة النظر في الهوية المغربية بمرجعية جديدة. هذه الهوية لا ينبغي أن تكون أداة للانغلاق على الذات، بل فرصة للتفتح على التجارب الإنسانية الأخرى من دون التفريط في خصوصياتنا.
هل نحن مستعدون للتغيير؟
السؤال الأخير الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل نحن مستعدون، كمجتمع مغربي، للتغيير الحقيقي؟ هل لدينا الإرادة السياسية والمجتمعية لبناء وطن يشمل الجميع، من خلال سياسات عادلة تضمن مشاركة المواطن في القرار السياسي؟
لقد أثبتت التجارب أن الأزمات قد تكون منبعًا للتغيير الإيجابي، إذا توفرت الإرادة والتخطيط الجيد. اليوم، لا مجال للمزيد من الانتظار. إن المغرب بحاجة إلى إعادة بناء هويته الوطنية، وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والمجالية، ليتمكن من مواكبة تحديات القرن الواحد والعشرين.
الهوية المغربية ليست ثابتة أو أحادية البعد، بل هي عملية ديناميكية تنبني على ثقافة غنية ومتنوعة، وتستمر في التشكل تحت تأثير التحولات الداخلية والعالمية. في النهاية، ما نحتاجه هو بناء رؤية مشتركة للمستقبل، ترتكز على قيم التحرر، العدالة، والمساواة، وتستفيد من التنوع الثقافي والديني الذي يمثل جوهر قوتنا ، أو كما قال الشاعر الكبير محمود درويش " وكان في بحثه الديناميكي عن الغد في الحاضر ببحث عن نقاط الالتقاء، ويشكِّل سداً أمام الأصوليات. لم يكن تَديُّنهُ حائلاً دون علمانيته. ولم تكن علمانيته عبئاً علي تدينه. فالدين للّه والوطن للجميع".