تأملات مغربية الجزء السابع.. أي مستقبل للجامعة المغربية؟

تيل كيل عربي

ناجي العمري

في كل مرة يُفتح فيها النقاش حول وضعية الجامعة المغربية، نجد أنفسنا أمام نفس العناوين المستهلكة: إصلاحات هيكلية، تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص، تطوير البحث العلمي، تحسين جودة التكوينات. لكن خلف هذه العناوين البراقة، تظل الجامعة فضاءً مرتبكًا، فاقدًا لهويته، متأرجحًا بين خطاب رسمي يعد بالتحديث وبين واقع يكرس مزيدًا من التبعية والهشاشة. السؤال اليوم ليس عن عدد الطلبة المسجلين، ولا عن تصنيفات الجامعات المغربية في المؤشرات الدولية، بل عن طبيعة المعرفة التي تُنتج داخل أسوارها، وعن الغاية الحقيقية من هذا التعليم الذي لم يعد يخلق سوى أفواج من العاطلين.

بين منطق السلطة ومنطق السوق

لطالما كانت الجامعة فضاءً للصراع، ليس فقط بين التيارات الفكرية، ولكن بين رؤيتين متناقضتين: رؤية تعتبرها أداة للتحرر وبناء وعي جماعي قادر على مساءلة الواقع، وأخرى ترى فيها مجرد آلية لإعادة إنتاج علاقات السلطة القائمة، وتطويع الأفراد لخدمة السوق. في المغرب، يبدو أن الكفة تميل لصالح الرؤية الثانية. فمنذ عقود، يُساق التعليم العالي نحو "ملاءمة مخرجاته مع حاجيات السوق"، وكأن الجامعة مجرد مصنع لإنتاج "موارد بشرية" وفق الطلب. لم تعد المعرفة تُطلب لذاتها، بل أصبحت خاضعة لمنطق المنفعة الاقتصادية. هنا، يحضرنا عبد الله العروي حين قال: "إن التعليم في بلادنا لم يكن يومًا مشروعًا مستقلاً، بل كان دومًا رهينًا بالقرارات السياسية وظروف السوق."

لم تكن الجامعة المغربية يومًا مستقلة، فمنذ الاستعمار وهي جزء من آلة أكبر، تخضع لمعادلة سياسية واقتصادية لا تضع المعرفة كغاية، بل كأداة. بعد الاستقلال، بدت الجامعة في لحظات معينة وكأنها تُحاول أن تكون فضاءً فكريًا ناقدًا، لكن سرعان ما تمت السيطرة عليها، سواء عبر البيروقراطية أو عبر منطق التقنين الذي جعلها تفقد استقلاليتها لصالح السوق والدولة. وكما قال محمد عابد الجابري: "لا يمكن للجامعة أن تكون مستقلة في مجتمع تابع، ولا يمكن للبحث العلمي أن يزدهر في بيئة تخاف السؤال وتقدس الجواب الجاهز."

الأزمة أو تسليع المعرفة

إذا كان البحث العلمي هو معيار قوة أي جامعة، فإن وضعه في المغرب يعكس بوضوح أزمة التعليم العالي برمته. أغلب الأبحاث الجامعية تُنجز فقط لنيل شهادة أو ترقية أكاديمية، وليس للإجابة عن أسئلة المجتمع الكبرى. حتى في العلوم التقنية، حيث يُفترض أن يكون البحث العلمي أكثر حضورًا، نجد أن أغلب الدراسات تُمول من الخارج وتخدم مصالح المؤسسات الاقتصادية الكبرى بدل أن تكون جزءًا من مشروع تنموي محلي.

لا عجب إذن أن يتحدث الجميع عن "هجرة الأدمغة"، فالباحث المغربي، إن أراد أن يكون فاعلًا حقيقيًا في مجاله، عليه أن يهاجر. الأمر لا يتعلق فقط بضعف الأجور أو غياب الإمكانيات، بل بهيمنة منطق إداري يقتل كل روح إبداعية. وكما قال عبد الرحيم بوعبيد: "لا يمكن أن ننتظر بحثًا علميًا مستقلًا في ظل إدارة تفكر بمنطق الوصاية، ولا يمكن أن نطلب من المفكر أن يكون حرًا في بيئة تقيس كل شيء بمعايير الولاء والانضباط."

إعادة الاعتبار لدور الجامعة المجتمعي

كل حديث عن إصلاح التعليم العالي يظل مجرد تكرار لمحاولات سابقة لم تغير من جوهر الأزمة شيئًا. لا يمكن إصلاح الجامعة دون إعادة تعريف دورها في المجتمع. إنها ليست مجرد مؤسسة لإنتاج "الكفاءات"، بل فضاء لبناء الإنسان الواعي، القادر على الفهم والنقد والتغيير. وكما قال لينين: "المعرفة التي لا تساهم في تغيير الواقع، ليست إلا ترفًا برجوازيًا."

إصلاح الجامعة يعني أولًا وقبل كل شيء إعادة الاعتبار لدورها المجتمعي، وهذا يتطلب:

*دمقرطة الجامعة: فلا يمكن الحديث عن إنتاج معرفة حرة في فضاء تتحكم فيه البيروقراطية، الجامعة يجب أن تكون فضاءً حقيقيًا للنقاش الفكري والممارسة الديمقراطية؛

*تحرير البحث العلمي من السوق: البحث العلمي ليس مجرد أداة لخدمة المقاولات، بل هو أداة لفهم العالم وتغييره، وأي حديث عن إصلاح الجامعة دون تحريرها من هيمنة رأس المال هو مجرد إعادة إنتاج للوضع القائم؛

*إعادة الاعتبار للعلوم الاجتماعية والإنسانية: لا يمكن لمجتمع أن يتقدم بدون فكر نقدي، ولا يمكن للجامعة أن تؤدي دورها دون أن تكون فضاءً للتحليل والمساءلة، فإقصاء الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ لصالح العلوم التطبيقية لا يعني سوى دفع الجامعة نحو مزيد من الاختزال والضحالة.

جامعة تحررية أو مزيد من التبعية

ليس السؤال اليوم عن جودة التكوينات أو عدد الجامعات أو ترتيبها في التصنيفات الدولية، بل عن دورها في بناء وعي نقدي قادر على تجاوز الأزمة البنيوية التي يعيشها المغرب. الجامعة، كما قال غرامشي، هي "حقل صراع"، فإما أن تكون أداة لتحرير الإنسان، أو وسيلة لإعادة إنتاج نفس العلاقات السلطوية القائمة. والواقع أن الجامعة المغربية، كما هي الآن، ليست إلا مرآة لمجتمع فقد قدرته على الحلم والتغيير.

لكن، وكما يعلمنا التاريخ، لا شيء يبقى ثابتًا. إذا كانت الجامعة اليوم فضاءً للإقصاء والتهميش، فقد تكون غدًا فضاءً للمقاومة وإعادة البناء. السؤال هو: من سيحمل هذا المشروع؟ ومن ستكون له الجرأة لطرح الأسئلة التي يهرب منها الجميع؟ هنا يحضرنا هيغل حين قال: "التعليم هو المصالحة بين الفرد والمجتمع، وبين الذات والعالم، فلا يمكن للإنسان أن يبلغ حريته إلا من خلال المعرفة." لكن أي معرفة؟ وأي حرية؟ تلك هي الأسئلة التي تحدد مصير الجامعة المغربية اليوم، ومعها مصير مجتمع بأكمله.