في سياق التأملات التي بدأناها، تناولنا في كلٍّ من الجزئين الرابع والسابع مسألة التعليم، وإذا كان إصلاح التعليم ضرورة من أجل تكوين الأجيال القادمة، فإننا في هذا الجزء سنتطرق إلى موضوع الإعلام، لأن ما قد تبنيه المدرسة والجامعة قد يفسده الإعلام.
ولهذا، سأكتب ساعيًا إلى أن يصبح لنا "إعلامًا يخاطب العقل والوجدان، لا البطن والغرائز والأهواء" كما قال عبدالجليل طليمات.
إذا من أين نبدأ؟
إذا كان الإعلام مرآة المجتمع، فكيف يمكن أن تعكس المرآة صورة واضحة إذا كان زجاجها مشوّهًا؟ السؤال الذي يجب طرحه ليس فقط عن طبيعة الإعلام الذي نستهلكه، بل عن البنية التي تتحكم في إنتاجه وتوجيهه.
في عالمنا اليوم، لم تعد المسألة تتعلق بوجود إعلام موجَّه، بل بوجود إعلام يفتقد للمعنى ذاته، حيث يتحول من سلطة مضادة إلى أداة لإعادة إنتاج الهيمنة.
ليست الرقابة المباشرة وحدها من تفرض هذا الوضع، بل هناك آليات رقابة غير مرئية: الدعم الانتقائي، التحكم في مصادر التمويل، التضييق على الصحافة المستقلة، وضخ الأموال في منصات تقدم محتوى سطحيًا. لم يعد الإعلام ساحة لصراع الأفكار، بل أصبح أداة لصناعة الاستهلاك، حيث يُستبدل التحليل بالإثارة، والمعرفة بالضجيج، والنقد بالامتثال.
السؤال الحقيقي إذن ليس: "من يتحكم في الإعلام؟"، بل "ما هو الدور الذي يلعبه الإعلام داخل البنية السياسية والاجتماعية؟"
الإعلام أداة هندسة الوعي
حين قال لينين: "الصحافة ليست مجرد وسيلة لنشر المعلومات، بل هي أيضًا سلاح سياسي يُستخدم في الصراع الطبقي." كان يشير إلى ما هو أبعد من مسألة ملكية وسائل الإعلام.
الإعلام ليس مجرد وسيط محايد، بل أداة فاعلة في إعادة تشكيل الوعي الجماعي، وفق مقتضيات السلطة السياسية والاقتصادية.
إن تغييب النقاشات الجادة، والترويج لثقافة التفاهة، ليس مجرد انحراف عفوي، بل جزء من استراتيجية مدروسة لإعادة توجيه الرأي العام. فما يحدث ليس فقط صراعًا على المعلومات، بل معركة حول كيفية إدراكنا للواقع. الإعلام في جوهره لم يعد يهدف إلى نقل الحقيقة، بل إلى إدارة الإدراك، بحيث يتحول الواقع إلى صورة يتم التلاعب بها وفق أجندات محددة.
في هذا السياق، يتحول الصحفي إلى مجرد موظف في سوق صناعة المحتوى، حيث الأولوية ليست للحقيقة، بل لما يحقق أكبر عدد من المشاهدات والإعلانات. وكما أوضح هربرت ماركيوز، فإن الإعلام في ظل الرأسمالية المتأخرة لم يعد وسيلة لفهم الواقع، بل أصبح جزءًا من "الصناعة الثقافية"، حيث تُنتج الأخبار بنفس منطق إنتاج السلع الاستهلاكية.
أزمة الثقة
وفقًا لتقرير معهد رويترز للصحافة الرقمية لعام 2024، بلغت نسبة ثقة المغاربة في وسائل الإعلام 31% فقط، مما يضع المغرب في مرتبة متأخرة عالميًا. هذا الرقم ليس مجرد إحصاء، بل مؤشر على أزمة عميقة في مصداقية الإعلام ومدى ارتباطه بالمجتمع. فحين تصبح الأخبار سلعة تخضع لمنطق السوق، بدل أن تكون أداة للفهم، يصبح من الطبيعي أن يفقد الجمهور ثقته فيها.
لكن هل يكفي إلقاء اللوم على السياسات الإعلامية الرسمية؟ أم أن المسؤولية تمتد إلى الفاعلين داخل المشهد الإعلامي، الذين قبلوا بالتحول إلى أدوات في خدمة منظومة الهيمنة؟
إن الصحافة، كما يُفترض أن تكون، ليست مجرد ناقل للأحداث، بل صوت للوعي الجمعي، أداة للنقد وكشف المستور. لكنها اليوم، في أغلبها، لم تعد تملك حتى رفاهية لعب هذا الدور، بعدما تحولت إلى سوق للإعلانات، تحكمه لوبيات مالية تدير الخط التحريري وفق مصالحها.
الإعلام منتج السلطة
التراجع في وظيفة الإعلام النقدية لم يأتِ بمعزل عن سياسات الدولة، التي لعبت دورًا محوريًا في توجيه المشهد الإعلامي. فمن خلال الإشهار العمومي، والدعم الانتقائي، وإضعاف الصحافة المستقلة، تم الدفع بالإعلام ليصبح مجرد امتداد للسلطة القائمة، بدل أن يكون سلطة مضادة تكشف تناقضاتها.
لكن الهيمنة لا تُفرض بالقوة فقط، بل أيضًا بالتصنيع الثقافي. إن خلق بيئة إعلامية تسوّق التفاهة كمنتج رئيسي، وتهمّش القضايا الجادة، ليس مجرد نتيجة عرضية، بل هو جزء من إعادة تشكيل المجال العام، بحيث يصبح المجال السياسي خاليًا من أي معارضة فكرية حقيقية.
نحن إذن أمام إعلام لا يُنتج معرفة، بل يُعيد إنتاج الجهل المنظم، وفق تعبير بيير بورديو. إعلام يملأ الفراغ، لكنه لا يضيف شيئًا إلى وعي الناس، بل يسهم في تعميق اغترابهم عن واقعهم.
نحو إعلام مقاوم، مستقل، ومتحرر
إذا لم يعد الإعلام ساحة للصراع بين خطاب الهيمنة وخطاب المقاومة، بل أصبح جزءًا من منظومة الهيمنة نفسها، فإن السؤال الأهم اليوم ليس فقط كيف نستهلك الإعلام، بل كيف نعيد بناءه ليكون أداة للتحرر وليس مجرد وسيلة لإعادة إنتاج السيطرة؟
التحرر من إعلام التفاهة لا يكون فقط بانتقاده، بل ببناء بدائل حقيقية. البديل ليس مجرد منصات جديدة، بل رؤية إعلامية مختلفة، تُحرر المضمون من قيود السوق والدولة، وتعزز استقلالية الصحافة، وتعيد للجمهور دوره في إنتاج المعرفة وتوجيه النقاش العام.
معركة الوعي
إن أزمة الإعلام اليوم ليست مجرد أزمة محتوى، بل أزمة بنية ووظيفة. الإعلام، كما هو قائم، لا يسعى إلى كشف الحقائق بقدر ما يعمل على إدارة الرأي العام وفق أجندات محددة. وبين إعلام الهيمنة وإعلام التفاهة، تضيع الحاجة إلى إعلام جاد، تحرري، يضع المعرفة فوق الامتثال، والنقد فوق الاستهلاك.
لكن التاريخ يعلّمنا أن الهيمنة لا تدوم، وأن التفاهة لا يمكنها أن تكون أساسًا لصناعة الوعي الجماعي. السؤال إذن ليس فقط عن طبيعة الإعلام الذي نريد، بل عن المجتمع الذي نطمح إليه. إن إعادة بناء إعلام بديل ليست مجرد معركة تقنية، بل معركة ثقافية وسياسية، تستدعي تجاوز كل ما هو جاهز ومقولب، نحو أفق أكثر تحررًا.
السؤال الذي يبقى مطروحًا: هل نحن مستعدون لهذا التحدي؟