تحقيق "تيلكيل عربي"/بين طنجة والخزيرات.. هل تم تبادل "شحنات الأسلحة" المشتبه توجهها نحو إسرائيل في الخفاء؟

بشرى الردادي

في عرض البحر، وتحديدًا عند مضيق جبل طارق، تلاقت مسارات سفينتين تحملان ارتباطات لوجستية تمتد من شرق المتوسط إلى غربه، ومن الولايات المتحدة إلى السواحل المغربية. السفينتان "MAERSK DETROIT" و"NEXOE MAERSK"، اللتان أُدرجتا في تقارير إعلامية ضمن دائرة الشبهات المرتبطة بنقل شحنات عسكرية يُعتقد أنها موجهة إلى إسرائيل، ظهرتا على مقربة غير معتادة من بعضهما، وفي توقيت بالغ الدقة، قرب أحد أكثر الموانئ الاستراتيجية في شمال إفريقيا: ميناء طنجة المتوسط.

ورغم غياب أي تصريح رسمي من السلطات البحرية أو إدارة الميناء، تكشف بيانات التتبع الملاحية وسرعات الإبحار وأوقات الرسو، إضافة إلى تباطؤ السفينة "NEXOE MAERSK"، عن مؤشرات تستدعي طرح فرضيات جديدة. هذه الفرضيات لا تظهر بوضوح في أنظمة الملاحة التقليدية، لكنها تتكشف بالتدريج عند التمحيص في البيانات الدقيقة.

فهل دخلت السفينة، فعليا، نطاق الميناء، دون تسجيل رسمي؟ وهل تم ذلك بتنسيق لوجستي خاص، أو عبر طرف ثالث؟ أم أن أيًّا من هذه الفرضيات لم يتحقق أصلًا؟

في هذا التحقيق، تتبع "تيلكيل عربي" تحركات السفينتين لحظة بلحظة، وحلل الاحتمالات واحدة تلو الأخرى، لكشف خيوط واحدة من أكثر لحظات التقاء السفن غموضًا، في ظل تصاعد الاحتجاجات المناهضة لرسو السفينة بموانئ المملكة.

من أين أتت السفينتان؟

تتبع "تيلكيل عربي" بيانات الملاحة البحرية التي توثق تحركات السفينتين "MAERSK DETROIT" و"NEXOE  MAERSK" في المياه الدولية، وهما سفينتان أُشير إليهما، في تقارير متداولة، باعتبارهما متورطتين في نقل قطع غيار طائرات عسكرية يُرجّح أنها موجهة إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي.

كشف التتبع البحري عن مفاجآت؛ أبرزها تقاطع مساري السفينتين، إضافة إلى رسو إحداهما في ميناء إسرائيلي، خلال شهر أبريل الجاري، وفقا لأرشيف الرحلات المتوفر على موقع "Marine Traffic"، المتخصص في تتبع حركة السفن.

ووفقا للبيانات ذاتها، فإن السفينة "MAERSK DETROIT"، القادمة من "ميناء هيوستن" الأمريكي، تحركت هذا الشهر بين عدد من الموانئ الإفريقية، مرورا بطريق رأس الرجاء الصالح، ثم موانئ الدار البيضاء وطنجة المتوسط في المغرب، بالإضافة إلى موانئ إسبانية، قبل أن تعود إلى أمريكا. وفي 13 أبريل الماضي، غادرت مجددا من "ميناء هيوستن"، ورست في ميناء طنجة المتوسط، اليوم الاثنين 21 من الشهر نفسه، بحسب "Marine Traffic".

مسار السفينة "MAERSK DETROIT" - "مارين ترافيك"

الأكثر إثارة للجدل لم تكن السفينة القادمة من أمريكا، بل تلك التي عبرت قرب ميناء طنجة المتوسط دون توقف رسمي، قادمة من ميناء الدار البيضاء ومتجهة نحو ميناء الخُزيرات الإسباني؛ إذ يضيف تحليل مسار السفينة "NEXOE MAERSK"، خلال شهر أبريل الجاري، مزيدا من الغموض والريبة حول احتمالية تورطها في نقل شحنات عسكرية.

وتُظهر بيانات الملاحة أن السفينة "NEXOE MAERSK" انطلقت من شرق المتوسط، مرورا بموانئ تركيا، وإسرائيل، ومصر، قبل أن تتجه نحو المغرب، مرورا بسواحل صقلية، ومرافئ في فرنسا وإسبانيا.

وتوقفت السفينة في ميناء الدار البيضاء، يوم أمس الأحد 20 أبريل الجاري، قبل أن تتابع رحلتها شمالا نحو ميناء الخُزيرات، اليوم الاثنين 21 من الشهر نفسه، مرورا بمحاذاة ميناء طنجة المتوسط.

مسار السفينة "NEXOE MAERSK" - "مارين ترافيك"

هل تم تبادل شحنات بين السفينتين؟

استنادا إلى بيانات الملاحة والخرائط الملاحية التي توثق تحركات السفينتين "MAERSK DETROIT" و"NEXOE MAERSK"، يتضح وجود تقاطع زمني ومكاني لافت بينهما قبالة السواحل المغربية. هذا التقاطع، الذي لم يُسجل رسميًا كتوقف مزدوج، يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة بشأن احتمال وقوع مناورات لوجستية غير معلنة، أو عمليات تبادل شحنات جرت في الخفاء، عبر وسطاء أو محطات بحرية عائمة.

في هذه المساحة، نعيد بناء مسار الرحلتين بدقة، مستعرضين المعطيات التقنية والاحتمالات المطروحة، لتقديم قراءة شفافة ومهنية لما جرى، استنادا إلى بيانات "Marine Traffic".

فجر اليوم الاثنين 21 أبريل الجاري، وصلت السفينة الأمريكية "MAERSK DETROIT" إلى ميناء طنجة المتوسط، عند الساعة الخامسة وسبع وثلاثين دقيقة صباحا، بالتوقيت المحلي للمغرب. وفي اليوم ذاته، كانت السفينة "NEXOE MAERSK"، التي ترفع علم هونغ كونغ، قد غادرت ميناء الدار البيضاء، في وقت متأخر من مساء يوم الأحد 20 من الشهر نفسه، متجهة إلى ميناء الخُزيرات الإسباني.

وبينما كانت السفينة الأولى ترسو في ميناء طنجة المتوسط، عبرت الثانية مضيق جبل طارق، في توقيت متقارب جدا.

بيانات السفينة "MAERSK DETROIT" - "مارين ترافيك"

بيانات السفينة "NEXOE MAERSK" - "مارين ترافيك"

بيانات نظام التتبع البحري "AIS" تؤكد أن السفينتين تواجدتا ضمن المجال الجغرافي نفسه تقريبا، بفارق لا يتجاوز بضع كيلومترات، وفي إطار زمني لا يتعدى ساعات قليلة. فبينما كانت السفينة الأمريكية ترسو في ميناء طنجة، عند الإحداثيات (35.867722 / -5.534437)، عبرت السفينة الثانية نقطة بحرية قريبة (35.856495 / -4.897803)؛ حيث كانت المسافة الفاصلة بين الموقعين، في الوقت ذاته تقريبا، تُقدّر بنحو 32 ميلا بحريا فقط.

هذا القرب المكاني والزمني يثير تساؤلات جدية حول احتمال وجود تبادل غير مسجّل، سواء في محيط الميناء أو في عرض البحر.

تقدر المسافة بين السفينتين بـ32 ميلا بحريا

تشير البيانات الملاحية إلى تقاطع دقيق في تحركات السفينتين قرب ميناء طنجة المتوسط. ورغم عدم تسجيل أي توقف رسمي للسفينة "MAERSK NEXOE" في هذا الميناء، فإن تزامن وجودها في المنطقة مع رسو السفينة الأمريكية يفتح الباب أمام فرضيات مُحتملة حول عمليات تبادل شحنات غير مُعلنة.

البيانات لا تكذب

اعتمادا على تحليل بيانات الملاحة، وتتبّع تحركات السفينتين "MAERSK DETROIT" و"NEXOE MAERSK" في محيط ميناء طنجة المتوسط، اليوم الاثنين 21 أبريل الجاري، يمكن ترجيح سيناريوهات دقيقة واستبعاد أخرى، استنادا إلى التوقيت والسرعة والموقع الجغرافي.

وصلت السفينة الأمريكية "MAERSK DETROIT" إلى ميناء طنجة المتوسط، على الساعة 05:37 صباحا بالتوقيت المحلي، وسُجّلت رسميا كـ"راسية" بسرعة 0 عقدة؛ ما يدل على دخولها الفعلي في عمليات رسو وتفريغ داخل الميناء.

في المقابل، كانت السفينة "NEXOE MAERSK" قد غادرت ميناء الدار البيضاء، قبل ذلك بساعات، وبالضبط على الساعة 21:59 من مساء يوم أمس الأحد 20 أبريل الجاري، وتوجهت شمالا بمحاذاة الساحل المغربي، دون أن تُسجّل أي عملية رسو رسمية في ميناء طنجة.

السفينة "MAERSK DETROIT" في ميناء طنجة - "مارين ترافيك"

ورغم عدم تسجيل أي توقف رسمي، تُظهر بيانات التتبع أن "NEXOE MAERSK" سجلت تباطؤًا ملحوظًا في سرعتها، أثناء مرورها قرب ميناء طنجة المتوسط؛ حيث تراوحت بين 0.8 و1.2 عقدة، واستمر هذا التباطؤ لفترة طويلة نسبيًا، خاصة في ظهيرة اليوم الاثنين 21 أبريل الجاري، قبل أن تتابع طريقها شمالا نحو ميناء الخُزيرات.

اللافت أن موعد وصول السفينة المتوقع إلى الخُزيرات تأخر لاحقا، ليُحدد في فجر يوم 23 من الشهر نفسه؛ أي بعد يومين من مغادرتها ميناء الدار البيضاء، رغم أن المسافة بين الميناءين، في الظروف العادية، لا تستغرق سوى بضع ساعات إبحار. هذا التباطؤ غير المبرر، مقرونا بتغير جدول الوصول، يثير تساؤلات حول ما إذا كانت السفينة قد دخلت فعليا إلى نطاق ميناء طنجة المتوسط دون تسجيل رسمي، أو نفّذت عملية لوجستية ما في عرض البحر أو بمحاذاة الساحل المغربي.

السفينة "NEXOE MAERSK" على بعد حوالي 32 ميلا بحريا من ميناء طنجة يوم 21 أبريل الجاري - "مارين ترافيك"

ورغم غياب دليل قاطع على رسو السفينة في ميناء طنجة المتوسط، تبقى فرضية تعطيل جهاز التتبع البحري "AIS"، أو التحرك في نطاق غير مرصود، واردة؛ إذ يضم الميناء مناطق انتظار خارج الأرصفة الرسمية، تُستخدم أحيانا في عمليات لوجستية قصيرة أو غير مُعلنة، لا تُسجّل بالضرورة في أنظمة التتبع العامة؛ مثل "Marine Traffic".

في مثل هذه الحالات، قد تدخل السفينة نطاق الميناء لفترة وجيزة دون أن تُسجّل رسميا في بيانات الدخول، خصوصا إذا لم تقُم بعمليات تفريغ أو تحميل واسعة، أو إذا تمت العملية عبر طرف ثالث.

ويبرز هنا أحد السيناريوهات الأكثر واقعية: أن تكون "MAERSK DETROIT" قد أنزلت حاويات محددة، نُقلت لاحقا إلى "NEXOE MAERSK" عبر وسيط لوجستي محلي؛ كأحد وكلاء الشحن، أو مزودي الخدمات داخل الميناء، دون أن يُسجَّل ذلك كعملية تبادل مباشر بين السفينتين.

وتعتمد آلية النقل في هذا السيناريو على تفريغ الحاويات إلى ساحة تخزين مؤقتة، ثم تحميلها لاحقا على متن السفينة الثانية خلال فترة انتظارها غير الرسمية قرب الميناء، سواء بواسطة وسائل برية، أو من خلال عملية تحميل جانبي سريعة.

ونظرا إلى أن مثل هذه العمليات، إن وقعت، تتم ضمن صلاحيات الميناء وشبكة الخدمات المعتمدة، فمن المُمكن أن تمر دون أن تُرصد في سجلات التتبع الخاصة بنظام "AIS". غير أن غياب أي توثيق رسمي، حتى لحظة إعداد هذا التحقيق، من جانب إدارة ميناء طنجة أو الجهات البحرية المختصة، يُبقي هذه الفرضية في إطار الاحتمال الفني، ويدعو إلى المطالبة بالكشف عن السجلات الكاملة لعمليات الشحن والتفريغ، لتأكيد أو نفي وقوع أي تبادل غير مباشر بين السفينتين.

وفي ظل غياب رد رسمي من إدارة الميناء أو الشركة المالكة للسفينتين، يبقى هذا التقاطع الزمني والمكاني بينهما مُحاطًا بغموض لافت. وبينما لا يمكن الجزم بحدوث تبادل، مباشرة كانت أو غير مباشرة، دون الاطلاع على السجلات الدقيقة، فإن المعطيات التقنية تفرض طرح أسئلة مشروعة، خاصة في سياق سياسي إقليمي شديد الحساسية تجاه أي شبهة دعم لوجستي للاحتلال الإسرائيلي، في ظل استمرار الإبادة بحق سكان غزة وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وعلى ضوء ما كُشف في هذا التحقيق، وأيضا ما أُثير خلال الأيام الماضية حول السفينة المثيرة للجدل، لا يمكن إغفال أن هذه القضية تقع، أيضا، في سياق أوسع يتعلق بصراع النفوذ البحري، ومحاولات التوظيف السياسي لتحركات معينة، عبر تضخيم حدث يخص سفينة واحدة، في مقابل آلاف السفن التي تعبر الممرات ذاتها بصمت.