ينظر بعض الأطباء إلى المرضى على أنهم "أبقار حلوب"، فعلاج الناس ليس مقدسا بالنسبة إليهم، بل هو تجارة مربحة تقوم على ممارسات غير قانونية وغير أخلاقية.
عقب صدور القانون 113-13 الذي يرخص فتح الاستثمار في المصحات الخاصة لغير الأطباء، اقتحمت مجموعة "سهام" لصاحبها مولاي حفيظ العلمي قطاع الصحة وسط صخب إعلامي كبير. وكان على وزير التجارة والصناعة مواجهة اتهامات بتضارب المصالح لأنه عضو في الحكومة التي تقدمت بهذا التشريع الجديد. عقب المصادقة على هذا القانون، وجدت "سهام" نفسها، عبر فرعها "Meden Healthcare"، على رأس شبكة تتكون من أربع مصحات ومركزين للفحص بالأشعة، وكل هذه المؤسسات الصحية مجموعة تحت علامة "Evya".
بيد أنه بعد ثلاث سنوات فقط كلفت "سهام" منذ أسابيع بنك أعمال بدراسة إمكانية خروجها من رأسمال "Meden healthcare". "لقد شرعنا فعلا في التفكير في إمكانية التخلي عن Healthcare، قطبنا الصحي" قال مؤخرا مولا امحمد العلمي، المدير العام لـ"سهام للتأمين" على أثير "أتلانتيك راديو". هذا القرار فتح الباب أمام الكثير من الأسئلة. فحسب مهنيي التأمين، كانت "سهام" ترغب في الانسحاب لأن القطاع الخاص الصحي موبوء بـ"النوار" (الدفع تحت الطاولة)، الذي يضر كثيرا بروح مهنة التأمين، القائمة على تعويض العلاجات. فضلا عن هذا السبب الاقتصادي، هناك حديث فاعلين آخرين عن ممارسات غير شريفة بالمرة يقوم بها بعض أطباء القطاع الخاص.. مثل المداخيل غير المصرح بها، تضخيم الفواتير، العمليات الجراحية غير الضرورية التي لا طائل من إجرائها سوى تحقيق مزيد من الأرباح.
العملية القيصرية.. البقرة الحلوب
على رأس قائمة التدخلات الطبية المثيرة للشكوك نجد "العملية القيصرية". "الولادات الطبيعية التي تدوم 17 ساعة، لا تلائمني بصراحة". هذا ما نقلت إحدى السيدات عن طبيب متخصص في أمراض النساء والتوليد بإحدى المصحات الخاصة بالدار البيضاء.
"هذا أمر طبيعي"، بالنسبة لعمر الصفريوي، أستاذ في طب النساء والتوليد: يقول "بما أن الطبيب صادق ويقول بكل صراحة إنه يرغب في برمجة الولادات التي يشرف عليها، فهذا من حقه. للأطباء الحق في عدم إيقاظهم كل ليلتين.. لهم الحق في برمجة حياتهم المهنية والعائلية".
من جهته لا ينفي محمد بنعكيدة، رئيس الجمعية الوطنية للمصحات الخاصة، أن الأطباء الراغبين في تحقيق أرباح هامة يلجؤون إلى هذه العملية. ويقول بهذا الصدد "في كل المهن، يبحث المهنيون عن أوضاع عمل مريحة.. وهناك بلا شك أطباء يحثون النساء على إجراء العملية القيصرية لما فيها من راحة.. ليست لدي أدلة رسمية ولكن أعرف أنها مغرية".
ولا يهم في بعض الأحيان أن يكون الطبيب صادقا مع الحوامل اللواتي يلجأن إليه. تقول إحدى النساء "بينما كان وقت وضعي يقترب، أخبرني طبيبي بأنني أعاني من نقص في "السائل الأمنيوسي"، وبالتالي فالأمر يتطلب إجراء عملية قيصرية مستعجلة. ذهبت عند طبيب آخر لأتاكد من الأمر، فنفى لي ذلك، وقال إن الجنين في حالة جيدة. وفي الأخير وضعت بولادة طبيعية بعد أيام. وعلمت بعد ذلك أن الطبيب الأول كان سيخرج في عطلة الأسبوع الموالي".
بغض النظر عن مسألة السهولة والراحة، هناك قضية الكلفة. فالولادة الطبيعية تكلف ما بين 3 و4 آلاف درهم، بينما العملية القيصرية تتطلب 13 ألف درهم على الأقل، ويمكن للفاتورة أن تصل إلى 30 ألف درهم إن استدعى الأمر قضاء عدة أيام في المصحة (...)
وحسب أرقام "الكنوبس"، فإن نسبة اللجوء إلى العمليات القيصرية عند المؤمنين، التي كانت لا تتجاوز 35 في المائة سنة 2006، ارتفعت إلى 43 في المائة في 2009، أي مباشرة بعد رفع ثمن هذه العملية في يناير 2008 من 6 آلاف درهم إلى 8 آلاف درهم، وواصلت هذه النسبة الارتفاع لتصل إلى 59 في المائة في 2016، بينما توصيات المنظمة العالمية للصحة توصي بأن نسب هذا النوع من الولادات يجب أن تترواح بين 5 و15 في المائة. بل إن نسبة العمليات القيصرية تتجاوز 80 في المائة في محور الرباط- الدار البيضاء(...)
بغض النظر عن مسألة السهولة والراحة، هناك قضية الكلفة. فالولادة الطبيعية تكلف ما بين 3 و4 آلاف درهم، بينما العملية القيصرية تتطلب 13 ألف درهم على الأقل، ويمكن للفاتورة أن تصل إلى 30 ألف درهم إن استدعى الأمر قضاء عدة أيام في المصحة
"دياليز" خيالي !
توجه أصابيع الاتهام كذلك إلى بعض الأطباء فيما يخص "الدياليز". وهنا يمكن الحديث عن "احتيال" بعض مراكز نقل الدم بتواطؤ مع المرضى ! كيف يتم ذلك؟
يتفق الطبيب والمريض مثلا على التصريح لمؤسسة التأمين بـ13 حصة نقل للدم، بينما يتم إجراء 10 حصص فقط. ثم بعد، ذلك يقتسم الطرفان مبلغ الحصص الثلاث الخيالية بينهم وفق عملية تفاوضية تجري قبلا(...)
وللتأكد من الأمر قمنا بالتجربة. قصدنا مركز لنقل الدم بالبيضاء، وبعد أن شرحنا للطبيبة المكلفة أن والدتنا في حاجة إلى ثلاث حصص أسبوعية لنقل الدم، اقترحت علينا أن نصرح بعدد الحصص الضروري لمؤسسة التأمين على أن لا تستفيد منها الوالدة كلها، وبذلك سنسترد 3 آلاف درهم إضافية. هذه العملية تعتبر خسارة مالية بالنسبة إلى هذا المركز، ولكنه يقبلها لكسب مزيد من الزبناء. ويقول أحد الأطباء المتخصصين في المجال "إن الأطباء النزهاء المتخصصين في أمراض الكلي يتضررون من هذا الاحتيال. فهم لن يقصدهم سوى زبونان في الشهر مثلا بينما يحصل الأطباء الذين يقبلون التواطؤ مع المرضى على 10 أضعاف هذا العدد".
والحال أن كل شيء انطلق في البدء بناء على "مبدأ نبيل"، حسب تعبير رحال المكاوي، المدير السابق لديوان وزيرة الصحة السابقة ياسمين بادو. ويقول موضحا "لم يكن لدينا ما يكفي من مراكز نقل الدم في القطاع العام مقارنة مع عدد المرضى، وفترة الانتظار كانت طويلة جدا، وكانت تعادل انتظار الموت. لذلك قررنا شراء خدمات الدياليز لدى المراكز الخاصة". كان هذا في 2009، وبعد حوالي عقد من الزمن، حاد المبدأ النبيل عن السكة وتحول إلى احتيال.
"النوار".. الوجه المظلم لقسم أباقرط
إن كان هناك وباء ينخر قطاع الطب الخاص بالمغرب، فهو الأداء من تحت الطاولة (النوار)، الذي يخول للعديد من مهنيي هذا القطاع التهرب من أداء الضريبة. فبعد أن كانوا لزمن طويل بعيدين عن أعين مصلحة الضرائب لأنهم لم يخضعوا سوى لمراقبات ضريبية قليلة، صار أطباء القطاع الخاص في مرمى المديرية العامة للضرائب.
وقال عمر فرج، المدير العام لمديرية الضرائب مؤخرا للصحافة "نلاحظ فرقا كبيرا بين موارد الضريبة على الدخل المقتطعة من المنبع (الموظفين مثلا) وبين موارد الضريبة على الدخل المصرح بها من طرف المهن الحرة. مثلا نلاحظ أن المساهمة المتوسطة لأطباء التخصصات في القطاع الخاص تبقى ضئيلة جدا مقارنة مع ما هو منتظر".
إن كان هناك وباء ينخر قطاع الطب الخاص بالمغرب، فهو الأداء من تحت الطاولة (النوار)، الذي يخول للعديد من مهنيي هذا القطاع التهرب من أداء الضريبة
وهذه الملاحظة مستخلصة من عناصر موضوعية، حسب قول مصطفى أمان، مدير المراقبة الضريبية بالمديرية العامة للضرائب(...)
عند سؤالهم حول "النوار" وحول التصاريح الضريبية غير الصحيحة، يرد عدد من الأطباء بأن هذا المشكل لا يخص قطاع الصحة وحده بالمغرب. ويقول أحدهم "بصراحة من المبالغة الحديث عن الأطباء في المقام الأول بهذا الخصوص". يوضح مدير المراقبة الضريبية أنه "بناء على المراقبات الضريبية، العديد من الأطباء يعتبرون تقديرات الإدارة بخصوص أرقام معاملاتهم غير واقعية ولا أساس لها من الصحة". ويضيف مصطفى أمان ردا على هذه الحجة بالقول "في إطار عمليات المراقبة المنجزة، يجري نقاش شفوي مع الطبيب للوصول إلى اتفاق ودي، وعند الطعن، يمكن لهذا الأخير اللجوء إلى اللجنة المحلية، ثم اللجنة الوطنية للضرائب. كما أن رفع الأمر إلى القضاء يبقى حلا أمام الطرفين إن لم يتم التوصل إلى اتفاق".
ويضيف المسؤول الضريبي إن "هناك عوامل أخرى تؤخذ بعين الاعتبار عند القيام بعمليات الفحص: الأداءات البنكية، وكذلك مؤشرات الإنفاق، سواء تعلق الأمر باقتناء عقارات أو سيارات، أو أسهم أو أداء قروض إلخ".
وينظر محمد بنعكيدة بعين الرضى إلى تحرك عمر فرج. ويقول " أرى أن ما قام به خطوة جيدة لتحسيس الأطباء بواجبهم الضريبي. وهو يعتمد مقاربة موضوعية ويدعو إلى التصحيح عندما يرى أن هناك خللا". ولكن رئيس جمعية المصحات الخاصة يخفف قليلا من حدة كلامه بالدعوة إلى "عدم التعميم" إسوة بكل زملائه الذين التقتهم "تيل كيل". ويشدد على ضرورة تحسيس الأطباء "الذين يتصرفون بشكل غير سليم ولا يعرفون بالضرورة كل القوانين بدقة". ولكن لا أحد يعذر لجهله القانون وبالخصوص الأطباء الذي يتوفرون مبدئيا على رصيد ثقافي متين.