بتفكيكها لـ55 خلية إرهابية منذ 2013، وبفضل المعلومات الحاسمة التي مدت بها عدة أجهزة أجنبية، تثير حصيلة المخابرات المغربية الإعجاب. "تيل كيل" حاولت الغوص في تفاصيل عمل رجال عبد اللطيف الحموشي.
رن هاتف عبد اللطيف الحموشي في الخامسة صباحا، في الطرف الآخر من الخط يتحدث مسؤول فرنسي سام: "لقد أنقذتم فرنسا، المعلومة التي أعطيتمونا كانت حاسمة". يقول هذا الفرنسي للمسؤول عن المخابرات المغربية منذ 2005.
مصدر أمني مغربي شارك في التحقيق في الهجمات التي استهدفت باريس 13 نونبر 2015، يقول"هجمات باريس كانت جغرافيا في فرنسا، ولكننا اشتغلنا عليها كأنها حدثت عندنا.. لم ننم، ونحس بالفخر لأننا تفادينا بحرا من الدماء، لا مثيل له".
كان مخطط الإرهابيين هو ارتكاب مذبحة يومي 18 و19 بحي "لاديفونس" الشهير بغرب باريس، وكان عبد الحميد أباعوض ينوي تفجير نفسه في المركز التجاري الكبير "quatre-temps"، بينما كان شريكه ينوي استهداف مركز الأمن بـالحي المالي نفسه، ولكن في يوم 18 نونبر على الساعة الرابعة صباحا، قتل الإرهابي البلجيكي- المغربي في مدينة "سان دوني" (الضاحية الشمالية لباريس) خلال هجوم لقوات الأمن الفرنسية بفضل معلومة من المخابرات المغربية. رجال الحموشي للأمن الفرنسي صورة لقريبة أباعوض، حسناء أيت بولحسن، فضلا عن هويتها وعنوانها. هذه "المعلومة كانت حاسمة".
لم يتحدث أي مسؤول فرنسي جهرا عن مضمون هذه المعلومة، الأمر الذي خلق بعض الشكوك عندنا في المغرب، مفادها أنه "إذا كانت المخابرات المغربية هي الوحيدة التي تتحدث عن هذه "المساعدة الحاسمة"، فربما تكون تلك مجرد رغبة من جانبها في ادعاء لعب دور أكبر من ذاك الذي قامت به فعلا؟"
أبدا، يجيب المعنيون بالأمر. "هناك قاعدة أساسية في مجال التعاون الأمني: ملكية المعلومة وتقاسمها يبقى حقا حصريا لمن يصدرها. ولا يمكن للجهة التي تلقتها نشرها أو توظيفها قضائيا. إنه اتفاق شرف عالمي تتقاسمه كل المخابرات". إذن المعلومة تدخل في مجال السيادة، والمغرب قرر وضعها رهن إشارة العديد من المصالح الأمنية الأجنبية منذ هجمات "مركز التجارة العالمية" بنيويورك في 2001. وهذا وفقا لضوابط محددة وتحت قيادة رجل واحد، عبد اللطيف الحموشي، الذي يقول من يعملون تحت إشرافه "إنه يلم إلماما كاملا بمشكل الإرهاب في المغرب، والتجربة التي راكم تخول له وضع استراتيجيات استباقية تستلهمها عدة بلدان اليوم".
آلية محكمة في الظل
"الإرهابيون يطورون وسائل عملهم، والمخبرون المغاربة كذلك. فمن هم في الحقيقة؟
لا يحدونا الأمل هنا لخرق أسرار عملهم ، فقط نسعى إلى الحصول على بعض التوضيحات.
"على المخبر أن يتحرك بسرية حتى يرصد الجريمة. إنها حرب متوازية حيث يتواجه نوعان من الاستخبار. في بعض الأحيان يكون الإرهابيون سباقون إلى الحركة، وفي أحيان أخرى نحقق هذا السبق.. والسر الحقيقي في هذا المجال هو أن يحب المخبر عمله".
مع توالي السنين، وخصوصا بفضل تجربته الطويلة في دواليب "المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني" (الديستي)، التي التحق بها وعمره 25 سنة، تمكن عبد اللطيف الحموشي من اختيار رجال ثقته بدقة كبيرة، "وهم شغوفون بعملهم ومتخصصون في الملفات التي بين أيديهم، وهذا ما تنتظره منهم القيادة". كما شكل جيشا من المخبرين المدربين على شن "الحرب على الإرهاب". وصارت خبرتهم مطلوبة من طرف أكبر وأشهر المصالح الأمنية بالعالم. وهم لا يترددون في الاستجابة خاصة وأن "أحد أكبر التحديات التي تواجهها مصالح الاستخبارات اليوم في العالم هو المقاتلين العائدين إلى بلدانهم الأصلية أو بلدان الاستقبال" يقول عبد اللطيف الحموشي، في مدينة "سان بترسبورغ، بروسيا خلال اللقاء الـ15 لرؤساء مصالح المخابرات في يوليوز 2016، أمام 136 وفدا يمثلون 63 بلدا، وهذا من الخطب النادرة للرجل التي تمكنت "تيل كيل" من الاطلاع عليها، ثم يضيف أن "التحديات أمنية بالخصوص، لأن التجربة برهنت على أن هؤلاء الأشخاص مستعدون لتنفيذ أعمال تخريبية و أجندات تدميرية لمنظمات أجنبية"(...)
في كل لقاءاته مع نظرائه بالعالم يشدد الحموشي على أولويات "الديستي"، الجهاز الأمني الذي يشرف عليه: الاعتبارات السياسية لا يجب البتة أن تغلب على الأمن. وقد ختم كلمته في لقاء سان بترسبورغ بالقول تحت تصفيقات الحاضرين "هناك عنصر مهم له آثار سيئة على مكافحة الإرهاب، ويتمثل في هيمنة الاعتبارات السياسية على الطابع الأمني، خاصة في الحالات المعقدة والعابرة للقارات التي تفرض علينا العمل على توحيد التصورات والاستراتيجية بعيدا عن النزاعات السياسية".
بالنسبة إلى العديد من عناصر الديستي بالمغرب، تعتبر مكافحة الإرهاب مهمة مقدسة، ويقول واحد منهم "إن التصدي للإرهاب مسؤولية الجميع. من ناحيتنا ننهض بمهمتنا. فبعض العناصر قد يقضون 72 ساعة دون نوم، ويحدث أن نمضي شهرا أو شهرين ونحن خارج وطننا".
" الأممية المكافحة"
في قاموس المخابرات، يسمى "الاتحاد الدولي ضد الإرهاب"، على سبيل الهزل، "الأممية المكافحة" (على وزن "الأممية الاشتراكية). وعناصر المخابرات المغربية، إسوة برئيسهم، يؤمنون بهذه الوحدة إيمانا عميقا. والرغبة الملكية ليست بتاتا بعيدة عن هذا التوجه. فبعد هجمات باريس، اتصل العاهل البلجيكي، الملك فيليب، مباشرة بنظيره المغربي "من أجل تعاون مكثف ومتقدم في مجال الاستخبارات والأمن".
وبعد هذه المكالمة، اتفق وزيرا الداخلية بالبلدين على عقد اتفاق ثنائي. ولما تعرضت بروكسيل لذلك الهجوم المزدوج في 22 مارس 2016، طار في الصباح الموالي الفريقان المقربان من عبد اللطيف الحموشي وياسين المنصوري، مدير "لا دجيد" (المخابرات الخارجية) إلى العاصمة البلجيكية.
كان البرنامج هناك عبارة عن لقاء طويل دام اليوم بكامله في مقر أحد الأجهزة الاستخبارية. وكشف مصدر شارك في التحقيقات بعض ما جرى في ذلك اللقاء قائلا "تبادلنا وجهات النظر حول طبيعة الخطر الجهادي، وحول حالات بعض الأفراد. وتم فتح تحقيق على هامش الهجمات بحثا عن أثار وتشعبات أخرى(...) الهدف كان مد يد العون إلى بلجيكا".
وهكذا من بروكسيل إلى ليبروفيل ومن نيويروك إلى الرياض، لا يتوانى عناصر الديستي في التعاون مع نظرائهم في الأجانب.
ولكن التعاون بين الأجهزة الأمنية ليس نهرا يجري بهدوء. ففي شتنبر ثم أكتوبر 2016، أخبر رجال الحموشي السلطات الألمانية بخصوص تونسي يدعى "أنيس عمري". بعد بضعة شهور، نفذ هذا الشخص هجوما بسيارته في سوق شهير بالعاصمة الألمانية برلين خلال أعياد الميلاد، وكانت الحصيلة ثقيلة جدا: 12 قتيلا و55 جريحا. "لما نعطي معلومات فيجب استغلالها. في الوقت الحالي ليس هناك جهاز مخابرات يمكنه ادعاء الكمال أمام الإرهاب. يجب التحلي بالتواضع" يقول مصدرنا العارف بخبايا الأمور.
بالمقابل يحدث أن تتعثر آلة التعاون لما "يتم استهداف الشخص المتعاون وتوجيه الضربات له من الخلف"، يضيف مصدرنا، في إشارة واضحة إلى فترة التوتر مع فرنسا التي انطلقت بعد أن تقدم سبعة أمنيين إلى مقر السفير المغربي بباريس لتسليم استدعاء للحموشي للحضور أما قاضي تحقيق فرنسي. ما جرى بعد هذا الحادث معروف لدى الجميع، إذ تم تعليق التعاون القضائي والأمني بين المملكة وفرنسا لشهور طويلة. ويقول مسؤول سياسي فرنسي كان يتحمل المسؤولية في تلك الفترة "بذلنا جهودا كبيرة للتخلص من سوء الفهم".
منذ طي صفحة ذلك الخلاف، عاد التعاون بين المغرب وفرنسا إلى سابق عهده. ولما أعلن جيرار كولومب، وزير الداخلية الفرنسية مؤخرا في إذاعة "أوروبا 1" أن "الأجهزة الأمنية تستبق الهجمات وكشف وتفكيك الخلايا الإرهابية"، اشتم المغاربة رائحة يعرفونها جيدا. "إن العديد من الأجهزة الأجنبية تستلهم استراتيجية الاستباق التي اعتمدها مديرنا العام" يقول مصدرنا الذي يضيف أن هذه الاستراتيجية "تلقى الترحيب من طرف المجموعة الدولية.. في كل لقاء أو مؤتمر يخبرنا نظراؤنا بهذا".
وفعلا أبانت هذه الاستراتيجية عن نجاعتها، إذ تمكنت السلطات من تفكيك 55 خلية إرهابية منذ 2013. وتقوم هذه الاستراتيجية على منطق بسيط: الوقاية خير من إحصاء الموتى. ويوضح مصدرنا "لما تأخذ بنية إرهابية في التكون، فإننا نسارع إلى تحييدها قبل المرور إلى التنفيذ. لهذا يجب العمل على رصد الخطر وعلى التصرف بفعالية. لا يمكننا بتاتا ترك التمساح يكبر. لا يمكنني الدخول في التفاصيل العملية، ولكن هناك معايير نحدد بناء عليها اللحظة التي يجب علينا فيها التحرك".
بتصرف عن مجلة "تيل كيل"