تحقيق من قلب حقول التوت في الأندلس.. مغربيات انتفضن ضد التحرش فوجدن أنفسهن ضائعات

تيل كيل عربي

في أبريل الماضي، ودعت سميرة طفلها الصغير لتمتطي حافلة تقلها إلى حقول التوت في جنوب إسبانيا، كانت حقيبتها تحوي جواز سفرها الحامل لتأشيرة عمل موسمي، وعقد العمل الذي ينص على أجر يومي يقدر بـ40 أورو في اليوم، مع ضمان المأكل والمبيت على حساب المشغل.

بأجر يومي كالذي ينص عليه العقد، كانت حسابات سميرة المالية، كافية لتعويضها ألم الفراق عن صغيرها، خاصة وأن ما يمكن أن تجنيه في ثلاثة أشهر في إسبانيا لا يمكن أبدا أن تحصل عليه مقابل عمل مماثل في المغرب.

بعد عام من وصولها إلى إقليم الأندلس، انقلبت حياة سميرة أحمد، وهو اسم مستعار، رأسا على عقب، هي اليوم تعيش بشكل غير قانوني، وضعا ماليا مزريا، ومطلقة، وتناضل رفقة تسع نساء مغربيات أخريات يدعين أنهن كن ضحايا للإتجار بالبشر والاعتداء الجنسي والاستغلال في المزرعة حيث جرى تشغيلهن، وتقول إن خطأها الأكبر - بخلاف المجيء إلى إسبانيا- كان الذهاب إلى السلطات الإسبانية للتبليغ عن تعرضها للاستغلال الجنسي.

 

 

يبحثون عمداً عن أشخاص غير مكلفين وضعفاء للقيام بهذه المهمة، النساء القرويات اللائي لديهن أطفال صغار يفهمن اللغة العربية فقط، ولا يمكنهن فهم عقودهن المكتوبة باللغة الإسبانية أو المطالبة بحقوقهن.

 

اعتقدت أني بطلة لكني اتخذت القرار الأسوأ

توضح سميرة أحمد في حديثها لصحيفة "الغارديان" البريطانية : "قبل مغادرتي لمنزلي، كنت في نظر كثيرين كالبطلة، لم تتح لأي من سكان قريتي فرصة العمل في بلد غني مثل إسبانيا، لكن اتضح لي فيما بعد أني اتخذت أسوأ قرار في حياتي".

في الأسابيع المقبلة، ستصل حوالي 20 ألف امرأة مغربية إلى إسبانيا للمساعدة في حصاد فاكهة التوت هذا العام.  وتمثل النساء نسبة كبيرة من القوى العاملة الموسمية في الأندلس، يأتين للعمل بموجب نظام تأشيرات العمال الموسمية الذي وضعته الحكومتان الإسبانية والمغربية منذ عام 2001.

آلاف النسوة المغربيات سيقطفن فاكهة التوت ليجري تصدير 400 ألف طن منها هذا العام إلى أسواق المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا.

وتعد إسبانيا أكبر مصدر للتوت في أوروبا، وهي صناعة تصديرية مزدهرة في جنوب إسبانيا، تجني 580 مليون يورو، ما جعل منها اليوم أداة مهمة للغاية للاقتصاد الإسباني الهش، ما دفع الإسبان إلى تسميتها بـ"الذهب الأحمر".

في السنوات القليلة الماضية، تكررت أكثر من مرة على صفحات الجرائد المحلية والدولية قصص حالات الاعتداء والاستغلال الجنسي والبدني ضد العاملات الموسميات المغربيات.

لكن رغم تواتر قصص الاعتداء والاستغلال الجنسي للعاملات الفلاحيات، قللت الحكومتان الإسبانية والمغربية من هذه المزاعم، علما أن العديد من مزاعم الإساءة والاغتصاب قد وردت في وسائل الإعلام، إلا أن وزارة التشغيل المغربية، وهي الجهة المسؤولة عن إختيار العاملات وإصدار التأشيرات أنكرت العام الماضي وجود شكايات رسمية.

لكن لأليسيا نافاسكيس رأي آخر، إذ تقول هذه المدافعة عن حقوق المرأة من جمعية  "موخيريس 24" إن النساء المغربيات استُهدفن عمداً بسب وضعهن الهش.

تشرح نافاسكيس بأن النساء المغربيات اللاتي التقتهن، أجمعن كلهن على أن ظروف عملهن جد مزرية، وغير إنسانية، إذ يتعين عليهن تحمل ظروف العمل الشاق، وأنهن لا ينعمن سوى باستراحة واحدة لمدة 30 دقيقة يوميا عند درجة حرارة 40 داخل البيوت البلاستيكية لجني التوت.

وتقول نافاسكيس "في المغرب، يبحثون عمداً عن أشخاص غير مكلفين وضعفاء للقيام بهذه المهمة، النساء القرويات اللائي لديهن أطفال صغار يفهمن اللغة العربية فقط، ولا يمكنهن فهم عقودهن المكتوبة باللغة الإسبانية أو المطالبة بحقوقهن.

"سألت عما إذا كان بإمكان زوجي الحصول على هذه الوظيفة ، لكن قيل لي إنهم يريدون النساء فقط. الآن، أدركت أن السبب في ذلك هو أنهم يعرفون أن بإمكانهم استغلالنا بسهولة".

شائعات في المغرب حقيقة في إسبانيا

تروي سميرة أحمد كيف أنها كانت تسمع بشائعات حول ما حدث للنساء اللاتي سافرن إلى إسبانيا قبلها، وقالت "لكنني تجاهلتها، لم أكن أعتقد أن مثل هذه القصص يمكن أن تكون حقيقية في بلد غني مثل إسبانيا".."

لكنها اليوم تجد نفسها رفقة 9 نساء مغربيات أخريات في خضم معركة حقوقية، بعد أن وقعن ضحايا للعنف الجنسي والاستغلال داخل المزارع التي قدمن للاشتغال فيها.

تقول النسوة التسع إنهن أجبرن على العيش في حاويات شحن قذرة، وأنهن اضطررن لمشاركة المئات من النساء العاملات في عدد قليل من الحمامات والمراحيض المهترئة.

خلال النهار، كن ضحايا الاعتداءات العنصرية وأجبرن على العمل دون أجر لمدة 12 ساعة، لقد حرمن من الطعام والماء وتمت معاقبتهن على أخذهن فترات راحة في الحمام أو عدم عملهم بجد.

تقول سميرة: "كانت المزرعة بعيدة جدا عن أقرب مدينة، كنا معزولات تماما، لا نتحدث الإسبانية، وكان همنا الوحيد إرسال المال لأطفالنا وعائلاتنا".

تؤكد النساء الأخريات أن الأمر دائما ما يكون أكثر صعوبة بالنسبة إلى العاملات الجديدات.

وتكشف النسوة التسع أنهن تعرضن للاعتداء الجنسي والتحرش، بينما كشف بعضهن تعرضهن للاغتصاب، وتم الضغط على آخريات لممارسة الجنس مقابل الطعام والماء.

فيما أجبر بعضهن الآخرعلى مزاولة البغاء مع رجال محليين كانوا يقدمون خصيصا إلى هذه المزارع وينتظرون العاملات كل ليلة داخل سيارتهم.

وعلى غرار سميرة أحمد، تحكي عائشة جابر، التي عملت في المزرعة ذاتها التي اشتغلت بها سميرة، كيف أنها وصلت للعمل وهي حامل وتقول: "رأيت عرض عمل خاص بالنساء اللاتي تتراوح أعمارهن بين 20 و 45 عامًا، سألت عما إذا كان بإمكان زوجي الحصول على هذه الوظيفة ، لكن قيل لي إنهم يريدون النساء فقط. الآن، أدركت أن السبب في ذلك هو أنهم يعرفون أن بإمكانهم استغلالنا بسهولة".

وتضيف، بمجرد وصولي إلى المزرعة، تعرضت للمضايقة والاعتداء الجنسي، نجوت من الاغتصاب بفضل تدخل نساء أخريات يعملن في المزرعة. وتقول: "بالنسبة لنا، كان هذا الاعتداء نوعا من القتل لأننا شعرنا بالخجل وكنا غاضبات للغاية ولكن خائفات أيضا من أن تكتشف أسرنا الأمر".

الندم من اللجوء إلى الشرطة

بعد مكوثها حوالي ستة أسابيع في المزرعة، قصدت عائشة جابر وسميرة أحمد وثمانية نساء أخريات الحرس المدني، للإبلاغ عن تعرضهن للاستغلال والاغتصاب والاعتداء الجنسي.

تقول سميرة أحمد "اعتقدنا أنه عند ذهابنا إلى الشرطة، ستتحقق العدالة، لكن بالمقابل، ما حصلنا عليه تجسد في وقف رواتبنا، ليجري التخلي عنا وتركنا للجوع".

ليست حالات النسوة التسع الوحيدة التي جرى الكشف عنها في السنوات القليلة الماضية، إذ كشف تحقيق لـ"بوز فيد ألمانيا" العام الماضي عن تقديم ادعاءات من قبل العديد من النساء، وهناك حالة واحدة على الأقل من حالات الاستغلال جارية في محاكم الأندلس.

بعد عشرة أشهر من لجوؤهن إلى الشرطة المحلية، لا يزال يتعين التحقيق مع أحمد وجابر وجميع النساء الأخريات من قبل الحرس المدني أو الشرطة الوطنية. وقالت بيلين لوخان سيز ، وهي محامية إسبانية تمثل المجموعة النسائية، إن الشرطة الوطنية ملزمة قانونا بالتحقيق في شكاوى النساء، لكنها رفضت تفعيل البروتوكولات الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر التي كانت ستسمح لهن بالاستفادة من الدعم والمساعدة أثناء التحقيق.

تزعم سايز أيضا أن المحاكم الإقليمية في الأندلس قد عرقلت التحقيق في القضية وفشلت في التحقيق فيها بشكل صحيح، ولم تترك للنساء وقتا كافيا للذهاب إلى قاعة المحكمة في هويلفا للإدلاء بشهادتهن أمام المحاكم، ما جعلهن في مأزق قانوني.

من جانبها نفت محكمة هويلفا مزاعم النسوة، مدعية أنهن لم يحضرن جلستين، واحدة في يونيو من العام الماضي والثانية في فبراير الأخير وألقت باللوم على محاميتهن لعدم المضي قدما في هذه القضية.

وقالت الشرطة الوطنية إنها لن تستجوب النساء كضحايا محتملات للاتجار بالبشر لأنهن رفعن بالفعل شكوى في محاكم إقليمية.

تقول لوخين سيز "كل ما نطلبه هو أن تؤخذ شكايات هؤلاء النساء حول تعرضهن للاتجار في العمل والاغتصاب والاعتداء الجنسي على محمل الجد وأن تخضعن للتحقيق المناسب".

وتضيف المحامية "كان يجب أن تتمتع موكلاتي بالحماية والدعم كضحايا محتملات للاتجار بالبشر بمجرد الإبلاغ عن هذه الانتهاكات".

منذ ذهابهن إلى الشرطة المحلية للإبلاغ عن مزاعمهن في العام الماضي، أصبحت النساء معوزات وبلا مأوى، خاصة بعد انتهاء صلاحية تأشيرة الثلاثة أشهر، إذ لم يتمكن من الحصول على عمل.

لا توت لا زواج ولا عودة

تؤكد أغلب النسوة ضحايا الاستغلال الجنسي في حقول التوت، أنهن طلقن  من قبل أزواجهن ونبذن من قبل عائلاتهن في المغرب، بعد أن أُبلغت أسرهن بادعاءات الاغتصاب والاعتداء الجنسي وتلقوا رسالة تفيد بأنهن كن يعملن في الدعارة في إسبانيا.

ويروين أنه من المستحيل العودة إلى ديارهن قبل تسوية قضيتهن، تقول عائشة التي يبلغ طفلها الآن تسعة أشهر: "علمنا أنه لا يمكننا العودة إلى المنزل لأننا ما زلنا لم نحصل على أجر وعلينا أن نثبت للشرطة أننا ضحايا استغلال".

وتضيف عائشة "منذ أن لجأنا إلى الشرطة صارت حياتنا لا تطاق، "طفلي لم يلتق أبداً والده. في بعض الأحيان، أفكر أنه كان من الأفضل تقبل التعرض للإيذاء، لأتمكن من العودة إلى منزلي وعائلتي ".

هذا العام، أعلنت الحكومة الإسبانية أنها تعمل على الحد من انتقادات معاملة المرأة المغربية في قطاع إنتاج الفاكهة التصديرية، وأنها ستعزز الرقابة والتفتيش على المزارع واستخدام وسطاء لغويين -نساء مغربيات أخريات- لمحاولة فض النزاعات والإبلاغ عن حوادث سوء المعاملة.

وفي الأسبوع الماضي منحت الحكومة الإسبانية تأشيرات عمل مؤقتة لأسباب إنسانية لفائدة النسوة العشر، مما سيتيح لهن العثور على عمل لإعالة أنفسهن. ومع ذلك تقول سايز إن جميع الجهود المبذولة لحمل الحكومة على التحرك بسرعة لحل قضيتهن ما زالت محبطة.

وأضافت سيز "لقد منحن تصاريح لأسباب إنسانية، ليس لأنهن يؤخذن على محمل الجد كضحايا محتملات للاتجار بالبشر والاغتصاب، سنستمر في رفع دعوى أمام المحكمة، على الرغم من أنه يتعين علينا الذهاب إلى المحكمة الأوروبية".

تقول أحمد وجابر إنهما تفقدان الأمل في تحقيق العدالة التي تدعيان أنهما تستحقانها، وقالتا إن تجاربهما في حقول التوت في إسبانيا، قد غيرتهما إلى الأبد، وقالت أحمد: "لم أكن أملك الكثير من قبل، لكن ما حصلت عليه في هذه التجربة تبخر بدوره، لذا أتوجه إلى النساء المقبلات على هذه التجربة، رجاء لا تأتوا إلى هنا، فإذا حدثت أشياء سيئة، فلن يساعدكن أحد، ولا حتى على العودة إلى منزل عائلتكن.