دستور 2011، ومدونة الأسرة، وقانون الجنسية، وقانون العمال المنزليين، تحولات تشريعية تعكس تحولات سياسية واجتماعية عاشها المغرب على امتداد 19 سنة من حكم الملك محمد السادس. ماهي أبرز هذه التحولات، وهل جاءت بمبادرة من الجالس على العرش، أم هي مجرد تفاعل مع التحولات الاجتماعية الواقعة في البلاد؟
بعد مرور 18 سنة من حكم الملك محمد السادس، وبعد ما شهده المغرب من حركات احتجاجات وتقلبات سياسية، اجتمع باحثون وجامعيون يومي 29 و30 شتنبر برحاب كلية العلوم الاقتصادية والقانونية بالدار البيضاء في ندوة وطنية، لرصد "التحولات السياسية والاجتماعية بالمغرب بين سنة 1999 و2017". اللقاء الذي أقيم بشراكة مع الجمعية المغربية للعلوم السياسية ومؤسسة "هاندل" وحضره أكاديميون وازنون، سعى إلى "المساهمة في فتح نقاشات علمية في الساحة السياسية مرتبطة بالدولة والمجتمع".
حاول المشاركون في هذه الندوة الوقوف على أهم التحولات التي عرفها المغرب في العهد الجديد. وركزت محاور مداخلاتهم التي فاقت 20 متدخلا، على إشكاليات السلطة والتشريع، وتحولات التنظيم الترابي. إضافة لتقييم السياسات العمومية، وتحديات الانتقال الديمقراطي. ليخلصوا في نهاية الجلسات الممتدة على يومين، إلى البحث عن كيفية التعامل مع منطق التغيير، في خضم تلك التحولات.
تغيير من فوق ؟
افتتحت أولى الجلسات الدكتور عبد الله ساعف بكلمة أشار خلالها إلى أنه يمكن رصد التحولات الاجتماعية التي عرفها المجتمع المغربي بما صدر مكتوبا، ككتب السوسيولوجية أو التقارير الديمغرافية عن المغرب. الخبير في العلوم السياسية، ألمح إلى صعوبة الفصل بين المجال السياسي والاجتماعي، في رصد هذه التحولات، وضرب مثالا على ذلك بدستور 2011، متسائلا عن "الفئات الاجتماعية التي تمثلها هذه الوثيقة الدستورية".
ساعف اعتبر أن" فهم البنية التحتية للمجتمع والبينة الفوقية للدولة، يساعد على رصد التحولات التي عرفها المغرب"، معتبرا أن السياسة لا تنحصر في التجمعات والتحالفات السياسية فحسب، بل يلعب فيها "الفرد السياسي" دورا حاسما، إذ يحب" أن يستقل وألا يخضع دائما للمحددات الاجتماعية. وبالتالي يمكن له بعد بلوغه أعلى هرم السلطة، أن يستبق الإصلاحات ويبادر للتغيير من فوق".
في إطار الإصلاحات التي وعد بها الملك محمد السادس بعد توليه العرش، شهد المغرب إصدار مجموعة من القوانين والتعديلات التشريعية التي أضحت محل نزاع ونقاش. ومقارنة مع فترات سابقة من حكم المغرب، فهذه التحولات التشريعية تعد "ترسانة قانونية غير مسبوقة"، حسب الدكتورة رجاء مكاوي.
الخبيرة القانونية عرجت في كلمتها، على المحطات التي شهدها المغرب وخلفت صراعات مجتمعية وسياسية؛ منها مدونة الأسرة وقانون الجنسية ومعالجة المعطيات الالكترونية، ومدونة السير.. وصولا إلى دستور 2011، ومحاولات إصلاح منظومة العدالة. كل هذه التحولات والأوراش التي عرفها المغرب مرّت، حسب مكاوي، عبر مستويات سن القوانين وتطورها، ثم مغربة التشريعات، وعبر تثبيت قيم الديمقراطية في القوانين وتطبيقها.
مكاوي التي شاركت في إعداد دستور 2011ـ، اعتبرت هذه الوثيقة تجسيدا "لتغيير فوقي وليس نتيجة حركية 20 فبراير. فقد تلتها خطابات ملكية دشنت مسار إصلاحات ومشاريع قانونية غيرت منظومة المغرب".
هذا التغيير الذي قامت به المؤسسة الملكية، اعتبره الباحث عكاشة بن مصطفى "تغييرا إيجابيا من فوق". مشددا في نفس الوقت أنه "لا يمكن أن نفصل بين التغيير من الأعلى والتغيير من القاعدة". فالدستور، في نظر الباحث، تفاعل مع مطالب المجتمع وأدرجها في فصوله، وبالتالي "فهذا التفاعل هو تغيير وإصلاح لاقى استجابة القاعدة". عكاشة حسب مداخلته يصف وضع المغرب "بأننا إزاء عقد سياسي وداخل نظام يشهد تغييرا إيجابيا".
هزات من تحت
لا يزال الباحثون والمتخصصون يتساءلون حول القيمة السياسية للإصلاحات الدستورية للعام 2011. هذه المحطة المفصلية من تاريخ المغرب يعتبرها محمد الهاشمي، باحث في العلوم السياسية، "عملية إعادة انتشار سلطوية بشكل جديد". الهاشمي الذي حاضر حول طبيعة النظام السياسي الحالي، زعم أن إعادة انتشار السلطة بعد 2011، لن تصمد في ظل عدة متغيرات عرفها المجتمع المغربي؛ منها "وقوع تفاعلات اجتماعية حدثت خارج مؤسسات الدولة، تتمتع بذهنيات تفكير هجينة ومنفتحة، وتشكل حقلا مضادا وعصيا عن النخب التقليدية (كالأحزاب والمؤسسات)".
هذه الذهنيات، يؤكد الهاشمي على ضرورة عدم إهمالها؛ إذ ومنذ بداية الألفية الجديدة إلى الآن، برزت تجمعات صغيرة أهملتها العلوم الاجتماعية والسياسية (كحركة مالي، أو حركة ماصايمنش، وحركة البرتوشيين.. )، لكنها، وعلى صغرها "شكلت تحديا للسلطة التي فشلت سياستها الاجتماعية والاقتصادية في التعامل معها".
في نفس المنحنى أي بالنظر إلى الحركات التي وقفت في وجه السلطة، يرى رشيد مقتدر الباحث في العلوم السياسية في معرض مداخلته، أن "دينامية المجتمع وحركة 20 فبراير وحراك الريف، عجزت الأبحاث السوسيولوجية عن التنبؤ بها قبل ذلك التاريخ". مضيفا أن الاحتجاجات التي عرفها المغرب بعد الربيع العربي، "هي مشاركة سياسية لحركات احتجاجية تجاوزت النخبة والسلطة، وبالتالي يمكن اعتبارها مشاركة من خارج المؤسسات وخارج قواعد اللعبة السياسية".
التحولات في الصلاحيات
في خضم هذه الندوة الوطنية، أشار بعض الباحثين إلى التحولات التي طالت رئاسة الحكومة والدور المنوط لها. ففي ضوء الثوابت والمتغيرات الدستورية التي شهدها المغرب يطرح التساؤل دائما حول صلاحيات رئيس الحكومة.الوثيقة الدستورية لسنة 2011، حسب الأستاذ كمال خزالي، حددت لرئيس الحكومة صلاحياته إزاء اشتغاله مع رئيس الدولة أو مع باقي الوزراء. وضرب الباحث مثالا يحدد مساحة اشتغال رئيس الحكومة. معتبرا الأخير "لا يمارس سلطته على إطلاقيتها بل بمحدودية، إذ في بعض الأحيان يمارس سلطته التنظيمية بصفتها الاستثنائية، أي بصفته الإدارية وليس رئيسا للحكومة".
كذلك انصبت بعض المداخلات حول الصلاحيات التي منحت لرؤساء الجهات والجماعات، بعد التقسيم المجالي والترابي الذي شهدته المملكة. ففي مداخلته، ركز أحمدو الباز على تحديد إرهاصات "اللامركزية" و"الجهوية الموسعة" في السنوات الأخيرة، معتبرا دستور 2011 إطارا مرجعيا لهذه التقسيمات، التي "راعت المحددات الاجتماعية والسوسيولوجية لكل جهة وجماعة".
وبهذه التقسيمات التي طالت التراب الوطني، فقد "تم منح صلاحيات جهوية لرؤساء الجهات والجماعات، وتحديد اختصاصات تتعلق بعضها بالتدبير المالي وبتنفيذ المشاريع، قصد تحقيق تنمية مجالية وثروة محلية"، يضيف الباز.
لكن وبعد التعديلات الأخيرة التي وقعت جراء انتخابات 2015، يرى المتحدث أننا "نحتاج إلى قوانين تنظيمية أخرى تقوي عمل الجهات، من أجل تفعيل ما يسمى بالجهوية المتقدمة". وخير دليل على الحاجة الماسة لذلك، هو "ما عاشته الحسيمة مؤخرا، نتيجة ضمها ترابيا إلى جهة طنجة"، يختم أحمدو الباز.
الأحزاب والانتخابات
هناك عدة مؤشرات يمكن رصدها في المجال السياسي، ويرى فيها الباحثون مؤشرا على تراجع ديمقراطي بالمغرب؛ منها العملية الانتخابية ودور الأحزاب وطرق اشتغالها.
"منذ حكومة التناوب إلى الآن عرفت الأحزاب المغربية تحولات أفضت إلى بروز تناقضاتها إلى السطح"، حسب الأستاذ محمد كلفوني. الأخير يرجح ذلك إلى "انهيار النماذج المرجعية لبعض الأحزاب، كالاتحاد الاشتراكي. وإلى غياب ديمقراطية تنظيمية داخل الأحزاب. ناهيك عن غياب كاريزمات قيادية، وصعود زعامات شعبوية".
يرى حسن طارق أن التحولات الاجتماعية والقيمية ساهمت في خلخلة الحياة السياسية بالمغرب. "فالمجتمع في السنوات الأخيرة عرف تحولا مجاليا (حضريا) وديمغرافيا، برزت فيه فئة الشباب والنساء بشكل كبير". هذه العوامل وغيرها، يرى حسن طارق أنها "أثرت في نتائج الانتخابات وفي هزيمة الأعيان الحضرية، وفي انتصار السياسة على آليات التحكم الانتخابي"، لكن ورغم تأثير المحددات الاجتماعية في العملية الانتخابية، إلا أن نسب المشاركة في الانتخابات، حسب الأستاذ نجيب الحجيوي "قد تتفاوت حسب السياقات، لكن تظل فيها الأصوات الملغاة مليون صوت تقريبا عند كل انتخابات".
الوضع الديني
تعتبر الدكتورة رجاء مكاوي أن أكبر تغيير طال الشأن الديني في الفترة الأخيرة، هو هيكلة المجالس العلمية، والسماح لسيدة بإلقاء درس ديني في سنة 2003 داخل المساجد. وعلى ضوء هذا الانفتاح، "صدرت مجموعة من النصوص التشريعية في دستور 2011، وتم وضع حدود بين التدبير السياسي والديني، بدءا من أعلى سلطة بالبلاد، تجلت مظاهرها في فصول الدستور التي حددت صلاحيات أمير المؤمنين وصلاحيات الملك. ووصولا إلى عمل المؤسسات الدينية"، تضيف رجاء مكاوي.
من جهة مقابلة، اعتبر عمر إحرشان الباحث في العلوم السياسية، أن التغيير الذي طال الشأن الديني بالمغرب لا يزال مبهما من الناحية الدينية والدستورية. فعبر تاريخ المغرب منذ الاستقلال، "احتكرت المؤسسة الملكية الحقل الديني وتصرفت في هذا الشأن بصفة "فوق دستورية". كما تم استغلاله سياسيا من طرف الملك في عدة مناسبات". إحرشان أشار إلى أنه رغم تعديل فصول الدستور سنة 2011، "فلم يتم الحسم بعد في عدة قضايا دينية، منها الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي، إما على مستوى النصوص أو على مستوى التنزيل".