أكد الحسن الداكي، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة، اليوم الثلاثاء، بالرباط، أن "الوقاية من المنازعات وتدبيرها بفعالية لا يمثل إجراء تقنيا فحسب، بل يتجسد كفلسفة شاملة تهدف إلى بناء جسور الثقة بين الأطراف المعنية وتعزيز الحلول التوافقية".
وتابع الداكي، في كلمة له بمناسبة حضور المناظرة الوطنية الأولى، حول موضوع: "تدبير منازعات الدولة والوقاية منها: مدخل لصون المشروعية واستقرار الاستثمار وترشيد النفقات العمومية"، أن "هذه الحلول ينبغي أن تضمن حقوق جميع الأطراف وتوفر بيئة استثمارية مستقرة وآمنة، باعتبار الاستثمار أحد ركائز الاقتصاد الوطني، والذي يساهم، بشكل مباشر، في تعزيز النمو الاقتصادي وخلق فرص الشغل، ومن هنا، تبرز أهمية إيجاد آليات مبتكرة تساهم في صون المشروعية وتحقيق الاستقرار وتفادي المنازعات التي تؤثر سلبا على تحقيق التنمية".
وأضاف: "ولا يخفى أن ترشيد النفقات العمومية يشكل تحديا كبيرا يتطلب منا، جميعا، العمل سويا، لضمان الاستخدام الأمثل للموارد الوطنية، وتطوير آليات فعالة لحل منازعات الدولة والوقاية منها، بشكل يساهم في تقليل التكاليف التي قد تنشأ جرّاء مباشرة الإجراءات والمساطر القانونية والقضائية المرتبطة بهذا الموضوع".
وأشار المتحدث نفسه إلى أن "دستور المملكة تضمن مجموعة من المبادئ والأحكام التي تشكل أرضية صلبة لصون المشروعية وسيادة حكم القانون؛ على رأسها ربط المسؤولية بالمحاسبة والحكامة الجيدة وتخليق الحياة العامة وخلق مناخ أعمال سليم وتنافسي، فضلا عن إجراءات قوية لزجر كل أشكال الانحراف في تدبير النفقات العمومية".
وفي هذا الإطار، استحضر الداكي الرسالة الملكية إلى المشاركين في الدورة الثانية للمؤتمر الدولي للعدالة، بتاريخ 21 أكتوبر 2019؛ حيث قال عاهل البلاد: "ومن هنا، تبرز أهمية توحيد آليات ومساطر تسوية منازعات الاستثمار، على الصعيد الوطني والجهوي والدولي، وتجاوز إشكاليات الاختصاص القضائي الوطني في هذا المجال، عبر إقامة نظام قانوني ملائم، يتوخى تفادي المشاكل والحد من المنازعات، وكذلك إنشاء هيئات متخصصة في فض هذا النوع من النزاعات، داخل الآجال المعقولة، وتراعي خصوصيات المنازعات المالية والتجارية، وتتسم بالسرعة والفعالية والمرونة".
كما سجل أنه "وعيا من رئاسة النيابة العامة بأهمية تدبير منازعات الدولة والوقاية منها في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وترشيد النفقات العمومية، بادرت، بمعية شركائها، لاسيما الوكالة القضائية للمملكة، إلى بدل جهود متميزة في مسار التدبير الجيد والفعال لمنازعاتها"؛ حيث وجه الشكر إلى الوكيل القضائي للمملكة، ومن خلاله، كافة أطر هذه المؤسسة، على "التواصل الإيجابي والفعال والتعاون المتواصل بشأن تدبير المنازعات المتعلقة بمجال تدخل رئاسة النيابة العامة".
ولفت الداكي إلى أنه "في هذا الإطار، سبق لرئاسة النيابة العامة أن نظمت، بشراكة مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية، والوكالة القضائية للمملكة، بتاريخ 12 دجنبر 2019، ندوة علمية وطنية بمراكش خصصت لتدارس موضوع: "الخطأ القضائي في مجال الاعتقال الاحتياطي".
وتابع أنه "إيمانا منها بأهمية تجويد العمل والرفع من نجاعته والارتقاء به، وتبسيط المساطر وتوظيف التكنولوجيا الحديثة، خدمة لحسن تدبير منازعات الدولة، انخرطت رئاسة النيابة العامة، بكل جدية، من أجل تكريس التبادل الإلكتروني للوثائق والمذكرات مع النيابات العامة لدى محاكم المملكة، وكذا مع الوكالة القضائية للمملكة، وهو ما كان له الأثر الإيجابي في تسهيل تبادل المعلومات والمستندات ذات الصلة بقضايا المنازعات؛ مما مكّن من تجويد الدفاع عن مصالح رئاسة النيابة العامة، وضمان تحقيق النجاعة، من خلال ضبط الآجال القانونية واحترام الآجال المحددة من طرف المحاكم، الشيء الذي انعكس إيجابا على مستوى مؤشر تدبير قضايا التعويض التي يتم رفعها في مواجهة النيابة العامة بسبب بعض القرارات التي قد تتخذها في إطار تدبيرها للدعوى العمومية؛ حيث حققت نسبة نجاح قاربت 100 في المائة".
وأبرز الداكي أن "رئاسة النيابة العامة عملت على تجميع وتصنيف الاجتهادات القضائية واستخراج المبادئ والقواعد المتعلقة بها وتوظيفها بشكل يضمن المهنية في الدفاع عن مصالحها. وفي نفس السياق، عملت، أيضا، على تشخيص خريطة للمخاطر القانونية المرتبطة بمنازعات النيابات العامة، وذلك بهدف تحديد مصادر المنازعات المحتملة وتقييم مخاطرها وآثارها والعمل على تقليصها أو تفاديها"، مسجلا أن "استراتيجيتها في تدبير منازعاتها والدفاع عن مصالحها أفضت إلى خفض نسبة استجابة المحاكم للمطالب المالية للمدعين خلال الست (06) سنوات الأخيرة (2019-2024) إلى أزيد من أربعة وتسعين مليون درهم (94.491.017,00 درهما)، وهي مبالغ مهمة تم توفيرها لفائدة خزينة الدولة".
وسجل المتحدث نفسه "سعي رئاسة النيابة العامة إلى تعزيز الوعي لدى النيابات العامة بأهمية الوقاية من المنازعات، من خلال تبليغها بنسخ الأحكام والقرارات القضائية الصادرة بشأن القضايا التي تكون النيابة العامة طرفا فيها. ويأتي هذا النهج إدراكا منها لأهمية نشر توجهات القضاء الإداري عند البت في هذه القضايا؛ حيث يسهم ذلك، بشكل فعال، في الوقاية من المنازعات والحد من المخاطر القانونية، ويؤدي إلى التقليل من المنازعات المعروضة أمام القضاء؛ مما يُدعّم كفاءة العمل القضائي ويعزز جودة الأداء".
واعتبر الداكي أن "التدبير الجيد لمنازعات الدولة والوقاية منها، اليوم، لا يقتصر على حل المنازعات بعد حدوثها، بل يتعدى ذلك إلى تبني سياسات وآليات استباقية تمنع نشوء هذه المنازعات، من خلال تعزيز الوسائل البديلة لحلها؛ مثل الوساطة والتحكيم والمصالحة التي تُعتبر أدوات فعالة لتخفيف الضغط على المحاكم وتسريع إيجاد حلول مُرضية، وكذا الرقابة الاستباقية على أعمال وتصرفات المؤسسات والتقيد بالإجراءات القانونية التي تضفي الشرعية على أعمال الإدارة".
وأضاف رئيس النيابة العامة: "كما يتطلب منا العمل المشترك بين مختلف المؤسسات، سواء كانت قضائية أو إدارية أو مهنية، وتعزيز التعاون بين القطاعات، واستلهام الممارسات الفضلى من التجارب المقارنة الرائدة في هذا المجال، بما يساهم في تطوير حلول مبتكرة تستجيب للتحديات الراهنة وتستشرف المستقبل. ومن هذا المنطلق، نأمل من كافة الجهات المعنية العمل سويا على تطوير آليات الوقاية والتدبير الجيد والفعال لمنازعات الدولة بما يخدم مصلحة الوطن والمواطن".