تنسفُ نظرية "أرض بلا مالك".. دراسة "كاش كوش" الأثرية تعيد صياغة تاريخ المغرب قبل الفينيقيين

محمد فرنان

قدّمت دراسة أثرية حديثة، نشرت اليوم الاثنين (17 فبراير 2025) في مجلة "Antiquity"، أول دليل على وجود استيطان بشري في العصر البرونزي في شمال غرب المغرب، وتحديدا في موقع أثري يعرف باسم "كاش كوش".

ويعد هذا الاكتشاف الأول من نوعه بالمنطقة، إذ يظهر مجتمعا زراعيا متطورا سبق وصول الفينيقيين إلى شمال إفريقيا.

الدراسة، المنشورة عبر موقع Cambridge University Press، تدعو إلى إعادة النظر في النظريات القديمة حول تاريخ شمال إفريقيا، وتسليط الضوء على الدور الذي لعبته المجتمعات المحلية في تشكيل الأنظمة الزراعية والثقافية والاقتصادية قبل التدخلات الخارجية.

موقع "كاش كوش"

يقع موقع "كاش كوش" على نتوء من الحجر الجيري يطل على وادي واد لاو السفلي، قرب تطوان، على بعد حوالي 10 كيلومترات من الساحل الحالي للبحر الأبيض المتوسط.

ويتميز الموقع بموقع استراتيجي فريد، حيث تعمل تضاريسه الصخرية كحصن طبيعي يحميه من التهديدات المحتملة، ويتيح للسكان السيطرة على الطريق التجاري الممتد من البحر إلى الوديان الداخلية لجبال الريف.

واكتشف الموقع لأول مرة عام 1988 ضمن مشروع أثري مشترك بين المغرب وإسبانيا، وخضع لحفريات أولية عام 1992.

مراحل الاستيطان

أبرزت الدراسة أن الحفريات التي أجروها كشفت عن ثلاث مراحل استيطانية متميزة، تمتد عبر فترة زمنية طويلة بين 2200 و600 قبل الميلاد، مما يبرز أهمية الموقع في دراسة تطور المجتمعات البشرية في شمال إفريقيا.

وتمثل هذه المرحلة البداية الأولى (KK1؛ 2200-2000 قبل الميلاد) للاستيطان في الموقع، حيث تظهر أدلة على وجود مجتمع صغير يعتمد بشكل أساسي على الزراعة البدائية، وعلى الرغم من قلة الأدلة الأثرية المكتشفة من هذه الفترة، إلا أن ما تم العثور عليه يشير إلى بداية ظهور نمط حياة مستقر يعتمد على الزراعة وتدجين الحيوانات، وهو ما يعد خطوة أولى نحو تطور المجتمعات الزراعية بالمنطقة.

أما المرحلة الثانية (KK2؛ 1300-900 قبل الميلاد)، فقد شهدت تطورا ملحوظا في الموقع، حيث أصبح "كاش كوش" مركزا زراعيا مكتملا، والأدلة الأثرية المكتشفة تشير إلى تنظيم واضح للأنشطة الزراعية، بما في ذلك زراعة الحبوب مثل الشعير والقمح، بالإضافة إلى تدجين الحيوانات مثل الأغنام والماعز، وعثر على أدلة على تخزين ومعالجة المحاصيل، مما يعكس استقرارا اقتصاديا واجتماعيا في المجتمع.

ووفق الدراسة، فإن المثير للاهتمام أن هذه المرحلة تظهر تطورا محليا مستقلا دون أي دليل على تدخل مباشر من الثقافات الخارجية، مثل الفينيقيين، مما يبرز دور المجتمعات المحلية في تطوير أنظمتها الزراعية والاقتصادية.

وتميزت المرحلة الثالثة (KK3؛ القرنان الثامن والسابع قبل الميلاد) بظهور تغييرات كبيرة في الأنشطة الاقتصادية والثقافية، إذ أدخل السكان المحليون محاصيل جديدة مثل العنب والزيتون والنخيل القزم، وهي محاصيل تعتبر من السمات المميزة للزراعة المتوسطية، وشهدت هذه المرحلة ظهور الفخار المصنوع على العجلات، وهو نمط ينسب إلى التأثير الفينيقي.

وتشير هذه التغيرات إلى أن "كاش كوش" كانت جزءا من شبكة تجارية وثقافية أوسع في البحر الأبيض المتوسط، حيث تفاعلت المجتمعات المحلية مع الثقافات الخارجية، مما أدى إلى اندماج بين التقاليد المحلية والتأثيرات الوافدة.

مخططات ومقاطع للهياكل

الهندسة المعمارية

أشارت الدراسة إلى أن "الهياكل المعمارية المكتشفة في الموقع تظهر تطورا ملحوظا عبر المراحل الزمنية المختلفة، ففي المرحلتين الثانية والثالثة، كانت الأبنية تعتمد على ترتيبات دائرية أو نصف دائرية لثقوب الأعمدة، مع استخدام الجص الطيني والطين كمادة بناء رئيسية، وكانت هذه الهياكل مرتبة حول أعمدة مركزية، مع أسقف مصنوعة من مواد نباتية قابلة للتلف.

وفي المرحلة الثالثة، ظهرت تقنية بناء جديدة تمثلت في مبان مستطيلة أو مربعة ذات قواعد حجرية، وهي تقنية ترتبط بالتأثير الفينيقي، وهذه التغيرات في تقنيات البناء تعكس اندماجا بين التقاليد المحلية والعناصر المعمارية الوافدة من الخارج.

إضافة إلى ذلك، تم العثور على حفر منحوتة في الصخر، يعتقد أنها كانت تستخدم كصوامع لتخزين المنتجات الزراعية، وإحدى الحفر الكبيرة احتوت على الفحم وبقايا معدنية وفخارية، مما يشير إلى استخدامها كموقد أو موقع لإعداد الطعام.

شظايا من الطين عليها آثار من نبات السنط

تربية الحيوانات والزراعة

كشفت الاكتشافات الأثرية في "كاش كوش" عن ممارسات زراعية متقدمة تشمل زراعة الشعير والقمح والفاصوليا والبازلاء، في المرحلة الثالثة، تم إدخال محاصيل جديدة مثل العنب والزيتون، مما يعكس تطور الأنشطة الزراعية عبر الزمن.

أما بالنسبة لتربية الحيوانات، فقد أظهرت الأدلة الأثرية وجود أغنام وماعز كأنواع رئيسية، بالإضافة إلى بقايا خنازير وأبقار وحيوانات أخرى مثل الحمير والكلاب، هذه الاكتشافات تشير إلى اعتماد السكان على الزراعة والرعي كمصدر رئيسي للغذاء والاقتصاد.

بقايا حيوانية

الصناعات اليدوية والفخار

حسب الدراسة، جرى العثور على حوالي 8000 قطعة فخار في الموقع، منها 500 قطعة مصنوعة على عجلات وفق التقليد الفينيقي، تضمنت هذه المجموعة أواني تخزين وطهي وتقديم، مع زخارف مميزة تعكس التفاعل الثقافي بين السكان المحليين والثقافات المتوسطية الأخرى.

واكتشفت أدوات حجرية وأشياء معدنية، بما في ذلك قطعة برونزية تعود إلى الفترة بين 1110 و920 قبل الميلاد، مما يشير إلى وجود نشاط حرفي متطور وربما صناعات مرتبطة بالجلود.

الاكتشافات في "كاش كوش" تعد دليلا قاطعا على أن منطقة شمال غرب المغرب كانت مأهولة بمجتمعات محلية نشطة قبل وصول الفينيقيين، وهذه المجتمعات طورت أنظمة زراعية واقتصادية مستقلة، مما يتناقض مع النظريات السابقة التي اعتبرت المنطقة "أرضا بلا مالك" قبل التدخلات الخارجية.

فخار من الألفية الثانية (أ-هـ) والقرنين الثامن والسابع قبل الميلاد

 

أدوات الطحن (أ-د) والأجسام المعدنية (هـ-ز)

التخلي غير العنيف

عزت الدراسة "التخلي غير العنيف عن كاش كوش حوالي عام 600 قبل الميلاد إلى تعطل الشبكات السابقة في أعقاب إنشاء مستوطنات ساحلية إضافية بعد الإطار الزمني لهذه المقالة، فضلا عن تصاعد التوترات الناشئة عن العمليات الناشئة للطبقية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المنطقة وخارجها، واستمر هذا المسار على مدى القرون اللاحقة".

وخلُصت إلى أنه "من غير المرجح أن تقف "كاش كوش" وحدها كمستوطنة محلية في منطقتها، وفي حين أن الافتقار المزمن للمشاريع التي تستهدف بشكل خاص العصر البرونزي في المغرب حتى الآن يمنع إجراء تقييم أكثر شمولا لمدى احتلال الألفية الثانية قبل الميلاد".

وشددت على أن "وجود كاش كوش يشير بقوة إلى مشهد أكثر تعقيدا لم يتم اكتشافه بعد، إن إجراء المزيد من البحوث في الألفية الثالثة قبل الميلاد، التي تربط بين العصر الحجري الحديث النهائي في شمال غرب المغرب الذي تم تحديده في وادي بهت والعصر البرونزي الناشئ الآن في كاش كوش، أمر ضروري".

وأورد الباحثون أنه "من خلال نشر البيانات من هذا الموقع الفريد، نهدف إلى تحفيز الاهتمام وتشجيع المزيد من البحوث حول الألفية الثالثة والثانية قبل الميلاد في المغرب، وهي فترة محورية تم تجاهلها لفترة طويلة والاستخفاف بها".