كتبه: محمد عبد الوهاب رفيقي
لا يمكن المجادلة في أن الإسلام شكل على مدى قرون عديدة هوية أساسية للأمة المغربية ، وأنه تدخل في صياغة كثير من التفاصيل السياسية والاجتماعية، بل أصبح المغرب بسببه مركزا أساسيا من مراكز الإنتاج الاقتصادي والثقافي والروحي، وكانت له مساهمات واسعة في ترسيخ التقاليد الإسلامية في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء والشمال الإفريقي.
لكن الواقع أن المغرب المعاصر، يعرف أشكالا نقاشية حادة عن مفهوم الهوية بين أنصار الطرح العلماني من جهة، والإسلامي الحركي من جهة ثانية ، بين من يرى أنه لا سبيل إلى فرض هوية حاسمة تستقي أغلب موادها من المصادر التراثية ، ومن يعتقد أن الإسلام هو المحدد الوحيد لمفهوم الهوية المغربية.
يصبح التساؤل مشروعا في هذه الحالة عن هذه الهوية ، أحقا ليس هناك إلا هوية واحدة تطبع كل شيء في الحياة المشتركة؟أوليس كل مجتمع هو – أصلا- عبارة عن تشكلات اجتماعية صغيرة تنتظم في إطار كبير ؟
ليس يخفى أن الحديث عن الهوية اليوم يرتبط في جزء كبير منه بصياغة شعبوية ، أصبحت راسخة أكثر من ذي قبل بسبب الاحتقان السياسي السائد ، وتفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يجعل الخطاب التعميمي و الشعبوي شائعا بين فئات عريضة من الفاعلين السياسيين.
صحيح أن هوية أي مجتمع ليست أمرا ثابتا ولا دائما، وأنها تتأثر بالعوامل الخارجية وبالتداول العلمي للأفكار والثقافات، كما أن الصراع على السلطة ولعبة التوازنات التي تمارسها السلطة بنفسها يساهم في تشكيل الهوية وصياغتها، إلا أن ذلك الشعور الجماعي هو الذي يمنح الفرد إحساسه بالهوية والانتماء ، ويحسّ بأنه ليس مجرد فرد نكرة، وإنما يشترك مع عدد كبير من أفراد الجماعة في عدد من المعطيات والمكونات والأهداف، وينتمي إلى ثقافة مركبة من جملة من المعايير والرموز والصور، وفي حالة انعدام شعور الفرد بهويته نتيجة عوامل داخلية وخارجية، يتولد لديه ما يمكن أن نسميه بأزمة الهوية التي تفرز بدورها أزمة وعي Warness crisis تؤدي إلى ضياع الهوية نهائيا ، فينتهي بذلك وجوده .
الهوية الإسلامية المغربية هي ذلك الامتداد الطبيعي لتراكم مختلف الحضارات منذ العصر الوسيط، لقد تعاقبت دول عربية وأمازيغية ، غير مسلمة ومسلمة، مالكية وظاهرية وشيعية ، في بناء أمة مغربية بالشكل الذي نعرفه اليوم .
لا يختلف مفهوم الهوية الإسلامية في محدداته عما سبق، فالمنادون اليوم بالهوية الإسلامية يقصدون الاستغناء عن كل العناصر الخارجية التي يرونها "غريبة" عن البيئة الإسلامية ، والبحث في الماضي عن أجوبة لأسئلة الحاضر.
بهذا الاعتبار يجعلون من الهوية الإسلامية استعادة كاملة لحقب ماضية عبر آليات محددة في الأدبيات الحركية : تأسيس دولة الخلافة، تطبيق الحدود الشرعية ، إحياء المدونة الفقهية عوض القانون المعاصر، إقحام الدين في كل مفاصل الحياة المدنية، والإعلاء من سلطة الفقهاء.
هذا جانب إيديولوجي في التفسير الهوياتي ، لكن الواقع أن الهوية الإسلامية تأخذ أبعادا أكثر رحابة من هذا التفكير الإجرائي الذي يميز كل حركة سياسية قائمة.
إن الهوية الإسلامية في معناها العميق تعني امتدادا طبيعيا للثقافات التي رسختها حضارات تعاقبت بالتتابع على بناء الدول الإسلامية، الهوية الإسلامية المغربية هي ذلك الامتداد الطبيعي لتراكم مختلف الحضارات منذ العصر الوسيط، لقد تعاقبت دول عربية وأمازيغية ، غير مسلمة ومسلمة، مالكية وظاهرية وشيعية ، في بناء أمة مغربية بالشكل الذي نعرفه اليوم .
يتفق الجميع على أن كل جماعة لا بد لها من هوية حتى تستحق مفهوم "الأمة" و"الشعب"، هوية وطنية تميزها عن الهويات الأخرى، تعطي معنى متميزا لهذا الاجتماع البشري ضمن خارطة الوجود الإنساني ككل، ليست الهوية بهذا الاعتبار إلا ذاكرة جماعية لماض سحيق يسمى التاريخ المشترك، ومقومات وجودية تفسح المجال للفعل الحضاري ضمن عدد من التحركات الحضارية لأمم أخرى بهويات مغايرة.
يستغل أنصار التحديد الهوياتي هذا التأسيس لاستجلاب واقع تاريخي سابق، وتعميمه على الحاضر بدعوى أن هذه هي الهوية الأصيلة للمغرب! لم يكن التاريخ في يوم من الأيام محددا نهائيا للهوية، هذا الفعل لا يشكل سوى إسقاط على الماضي لما ينفلت من الحاضر كما يقول الفيلسوف عبد الكبير الخطيبي.
لا يعرف تاريخ أمة من الأمم هوية ثابتة وراسخة على امتداد الزمن، التغير أهم سمة من سمات الهويات الوطنية التي تتأثر ضرورة بالإنتاج الثقافي والظروف السياسية والمؤثرات الخارجية أيضا. لقد كان المغرب في فترة من فتراته السياسية يعبر عن فكر الخوارج ومعقلا من معاقلهم السياسية الأساسية، فقد حكم الأباضية والصفرية المغرب لفترة من الزمن، انطلاقا من سجلماسة وتامسنا، بل إن إمارة برغواطة الخارجية قد صمدت طويلا، ولم يتمكن الأدارسة ولا الفاطميون ولا المرابطون من القضاء عليها، ولم يكن ذلك إلا زمن عبد المومن الموحدي، وكان المغاربة المسلمون في فترة من تاريخهم على مذهب أبي حنيفة، وفي أخرى على مذهب الأوزاعي إمام أهل الشام، كما حكى ذلك القاضي عياض ونقله عنه الناصري وغيره من المؤرخين، وكان الأدارسة طالبيين هاشميين قريبين من المعتزلة، وكان المرابطون مالكية سلفية، وكان الموحدون بعدهم ظاهرية أشاعرة، قبل أن تستقر الدولة المغربية على تبني المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية ، كل هذا التراكم التاريخي ما هو إلا هويات صنعت مغرب التاريخ بنفس القدر من الأهمية، ونفس القدر من التأثير السياسي آنذاك.
إذا كانت الهوية الوطنية المستمدة من تاريخ سابق تعاني في ظل الدولة الحديثة من مصاعب رغم مشروعيتها الموضوعية ، أيمكن أن يتوافق الجميع على هوية أخرى مقترحة لم تعرف بعدُ طريقا نحو التحقق؟
من جهة ثانية ، يرفض آخرون أن يكون للإسلام والتاريخ أي حضور في نسج معالم هوية مشتركة، ولو كانت بعيدا عن كل استخدام عقائدي للدين والتاريخ، الرفض هنا من حيث المبدأ، ومن أجل الرفض أيضا دون أي مبررات تجعل منطق الأمور واضحا.
لا يبتعد هذا الطرح -حسب رأيي- عن أي تصور طوباوي آخر يجعل من الماضي "حلما منشودا"، هؤلاء يعتقدون أن الحل هو الانفصال النهائي وتشكيل هوية حديثة من الصفر ولا يتساءلون عن الإمكان، ولا يرون في صفحات التاريخ الحديث أي درس للاعتبار؛ لقد حاولت أمم عديدة أن تبني هوية أخرى، تقطع مع الهويات القائمة وتؤسس لأخرى، تورط الفكر الشيوعي أكثر من غيره في هذا المشروع، فلم تكن لهم من نتيجة سوى الاندثار، لتزدهر بعد ذلك نفس الهوية التي حاربوها لعقود طوال.
يستبطن هذا التصور أيضا تفكيرا شموليا، وتصورا إقصائيا شديد الخطر على الأمن المجتمعي ، فضلا على ما سيجده من معارضة شرسة من أغلب فئات المجتمع، وهو ما ينبيء بفشله وانحصار امتداده، فإذا كانت الهوية الوطنية المستمدة من تاريخ سابق تعاني في ظل الدولة الحديثة من مصاعب رغم مشروعيتها الموضوعية ، أيمكن أن يتوافق الجميع على هوية أخرى مقترحة لم تعرف بعدُ طريقا نحو التحقق؟
إنني أتفهم الدافع الكامن وراء اقتراحات كهذه ، حيث بات منطق السلم باهتا مع اشتداد عود الإيديولوجيات المتطرفة، والخوف من تحقيقها لمكاسب جديدة قد تقضي على التنوع والتعدد الذي يعرفه المغرب، وهو أمر ينبغي أن نقلق جميعا بشأنه كشركاء في وطن يتلمس أولى خطواته نحو النوادي الديموقراطية والأمم المتحضرة.
لكنني أتصور أن قدرا من سوء الفهم يسود كل المواقف والدعوات ، موقف الرافعين لشعار الهوية الإسلامية، والرافضين له على حد سواء، فليس من باب المجازفة أن أقول إن قدرا من النقص المزمن في مفهوم التعدد هو المسؤول عن كل التصورات الشمولية كيفما كانت صيغتها، وأن الانغلاق داخل هوية ثابتة ، ينتج بالضرورة قيما معادية للآخرين، تفترض بوجودها كمالا متعاليا ، وتميزا متفردا يلغي حق الآخرين في الوجود .
أتخيل أحيانا مدى القصور الذي يطبع تصورات الكثير من المنادين بهوية متعالية ، قارة وثابتة، في الوقت الذي يعاني فيه العالم كله من أزمة الهوية ، بنفس القدر الذي لا زالت فيه مباحثها غير ناضجة تماما في الدرس الفكري والفلسفي المعاصر كما يقول "كلود ليفي ستراوس".
ففي كل مجتمع ، هناك فئات تستفيد من ترسيخ هوية قائمة، وآخرون لا تشكل لهم تلك الهوية المفروضة إلا جزءا من المعاناة التي لا تنتهي فصولها مع كل محاولة لتعميق أجزاء هذه الهوية على مفاصل الحياة جميعها.